في عمق الريف الجنوبي لمحافظة إدلب، يواجه العائدون إلى بلداتهم المدمرة واقعًا معيشيًا قاسيًا، حيث تتشابك آثار الحرب الطويلة مع غياب شبه كامل للخدمات الأساسية، في مشهد يعكس تحديًا يوميًا للبقاء على قيد الحياة.
رغم أن قرار العودة بالنسبة للكثير من العائلات كان خطوة أمل نحو بداية جديدة وإعادة بناء ما تهدّم، إلا أن الواقع الميداني كان صادمًا. فالبيوت التي بقيت قائمة تحتاج إلى ترميم شبه كامل، والبنية التحتية مدمرة، فيما تبدو الحياة العامة وكأنها متوقفة منذ سنوات، بلا كهرباء، بلا مياه، وبلا دعم يذكر.
تعاني معظم القرى من غياب تام للتيار الكهربائي، إذ خرجت الشبكات عن الخدمة ولم يتم إصلاحها حتى الآن. الطرقات إما دُمرت بفعل القصف أو غمرها الردم، وتحولت إلى مسارات ترابية وعرة تعيق الحركة وتزيد من عزلة القرى عن بعضها. أما المدارس، فقد بقيت مغلقة أو تحولت إلى أبنية غير صالحة للتعليم، فيما تفتقر المراكز الصحية - إن وُجدت - إلى الأدوية والمعدات اللازمة، ما يدفع الأهالي لقطع مسافات طويلة بحثًا عن رعاية طبية في مناطق بعيدة.
الأزمة لا تتوقف عند حدود الخدمات، بل تشمل أيضًا الوصول إلى الموارد الأساسية. على الرغم من أن إدلب تُعد من أكثر المناطق الزراعية خصوبة، فإن ندرة المياه تعرقل الزراعة والحياة اليومية. فقد تعطلت محطات الضخ، وتهالكت شبكات المياه، بينما باتت الصهاريج الخاصة الخيار الوحيد أمام السكان، لكنها مكلفة بشكل كبير، إذ يتجاوز سعر الخزان الواحد أحيانًا 400 ليرة تركية، وهو رقم يعجز عن دفعه كثيرون ممن لا يملكون أي مصدر دخل ثابت.
أما المياه المستخرجة من الآبار، فليست دائمًا صالحة للاستخدام، ما أدى إلى انتشار أمراض معوية وجلدية، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن، في ظل ضعف النظام الصحي وانعدام الرقابة الصحية.
في ظل هذا الواقع، يحاول الأهالي التكيّف بما تيسر. يقومون بترميم منازلهم بأدوات بسيطة وبمساعدة بعض المبادرات الفردية، كما يعتمدون على شبكات دعم اجتماعية غير رسمية، دون أن يكون هناك تدخل جاد أو استجابة فعلية من الجهات المعنية أو المنظمات الإنسانية.
ويعبّر السكان عن شعورهم بالتجاهل والنسيان، وكأن قراهم خارجة عن خارطة الاهتمام الإنساني والخدمي، رغم كل الوعود التي قُدمت من قبل. فالحرب، على قسوتها، لم تكن النهاية، بل بداية لمعركة أخرى مع الفقر والإهمال والتهميش.
يطالب العائدون بتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة: مياه نظيفة، كهرباء، تعليم، وصحة. فهذه ليست رفاهية، بل حق أساسي لا يمكن التغاضي عنه. وهم يؤكدون أن معاناتهم لم تعد مرتبطة فقط بالماضي، بل ناتجة عن الحاضر، الذي يتسم ببطء الاستجابة وتراكم الإهمال.