قسد ودمشق: صراع الإرادات في شرق سوريا

سامر الخطيب

2025.07.13 - 05:10
Facebook Share
طباعة

 في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة السورية لإعادة بسط سيادتها على كامل الأراضي السورية ضمن رؤية مركزية تقوم على "أمة واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة"، تتمسك "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) بخيار اللامركزية السياسية والإدارية، وتفاوض على أساس فيدرالي لا يخفي طموحات أبعد من مجرد الاندماج العسكري أو المؤسسي. هذا التباين الجوهري في الرؤى جعل مسار التفاوض بين الطرفين مليئًا بالتعقيدات، ويتأرجح بين تقدم بطيء وتوترات مستترة.


بداية مسار لم يكتمل
في العاشر من آذار الماضي، شهدت الساحة السورية ما وُصف باتفاق "تاريخي"، حيث تم الإعلان عن تفاهم أولي يقضي بدمج مؤسسات "قسد"، العسكرية والمدنية، ضمن الدولة السورية. الاتفاق شمل أيضًا إدارة المعابر وحقول النفط، واحتوى على بنود تلامس المطالب الاجتماعية والثقافية للأكراد في سوريا. غير أن ما تلا هذا الاتفاق كشف عن عمق الخلافات الهيكلية بين الطرفين، خاصة فيما يتعلق بمصير الهيكل العسكري لـ"قسد" ومفهوم اللامركزية.


قسد: فدرلة بنكهة وطنية؟
منذ نشأتها في 2015، وضعت "قسد" اللامركزية في صلب مشروعها السياسي، وعبّرت مرارًا عن تمسكها بالإدارة الذاتية كصيغة لحكم شمال وشرق سوريا، وهو ما فُهم لدى البعض على أنه محاولة لتكريس واقع انفصالي، رغم تأكيداتها المتكررة على وحدة الأراضي السورية. وتفاوض "قسد" اليوم وفق هذا المنظور، مطالبةً بالاحتفاظ بهيكلها العسكري والإداري والدخول ككتلة موحدة ضمن أي تسوية قادمة، بدلًا من الانصهار الفردي داخل الجيش أو مؤسسات الدولة.


وبينما لا ترفض "قسد" الاندماج شكليًا، إلا أنها تتعامل مع العملية كصفقة تتطلب مكاسب سياسية وإدارية واقتصادية، ولا تتنازل عن طموحها بتأسيس نظام حكم محلي موسّع الصلاحيات.


دمشق: لا تسويات على حساب السيادة
في المقابل، تتمسك الحكومة السورية برؤيتها التقليدية للدولة، وتعتبر أي شكل من أشكال الفيدرالية خطرًا على وحدة البلاد. وترى أن الجيش هو المؤسسة الوطنية الجامعة الوحيدة، وأن أي انخراط لـ"قسد" يجب أن يتم ضمن هياكل الدولة الرسمية، وليس بصيغة شبه مستقلة.


السلطات السورية عبّرت في أكثر من مناسبة عن ترحيبها بأي انضمام للمقاتلين ضمن الأطر الدستورية، لكنها رفضت بصورة قاطعة استمرار أي كيانات مسلحة أو إدارية خارج سلطة الدولة. وهي ترى أن تنفيذ الاتفاق مع "قسد" سيمكّنها من استعادة السيطرة الكاملة على الثروات والحدود، ويعزز فرص الاستقرار السياسي والاقتصادي.


جولات تفاوض لا تثمر
الجولات المتكررة التي عقدها الطرفان منذ آذار، كان آخرها في تموز الجاري، لم تثمر عن نتائج حاسمة. وبينما وصفت بعض المصادر المحسوبة على "قسد" الجولة الأخيرة بـ"الإيجابية"، لم يصدر عن الحكومة أو الرعاة الدوليين أي إشارات مماثلة. وهنا يبرز التباين في النظرة إلى العملية التفاوضية: فدمشق تتعامل معها كآلية لإنهاء مظاهر الحكم الموازي، بينما تراها "قسد" فرصة لانتزاع اعتراف سياسي بمشروعها الإداري.


الموقف الأمريكي: دعم مشروط وضغط خفي
تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في هذا المسار، باعتبارها الراعي الأكبر لـ"قسد" في السنوات الماضية. إلا أن التصريحات الأخيرة من واشنطن أظهرت تحوّلًا نسبيًا في اللهجة. فقد حث المبعوث الأمريكي إلى سوريا "قسد" على التعجيل بالاندماج، معتبرًا أن دمشق أبدت مرونة ملحوظة في هذا السياق. كما شدد على أن الفيدرالية ليست نموذجًا عمليًا في الحالة السورية، وأن الحل الوحيد يتمثل في الاندماج ضمن دولة موحدة.


رغم هذه التصريحات، لا تزال واشنطن تموّل "قسد" وتدعمها عسكريًا تحت غطاء الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهو ما يشير إلى ازدواجية في التعامل، تهدف على الأرجح إلى الحفاظ على "قسد" كورقة تفاوضية دون السماح بانفلاتها تمامًا عن سيطرة الدولة السورية.


لماذا تماطل "قسد"؟
تتعدد التفسيرات لسلوك "قسد" في هذه المرحلة. يرى محللون أن المماطلة جزء من استراتيجيتها لكسب الوقت وترسيخ سيطرتها في المناطق الخاضعة لها، مستفيدةً من الموارد الاقتصادية الضخمة في شمال شرقي سوريا، إلى جانب تعزيز استعداداتها لأي تصعيد محتمل. كما يُنظر إلى الأمر على أنه أسلوب تفاوضي متأثر بمنهج حزب "العمال الكردستاني"، الذي اعتاد الضغط المتدرج واستنزاف الخصم قبل الدخول في أي تسوية.


الخيار العسكري على الطاولة؟
رغم الرهان على الحل السياسي، لا تستبعد دمشق اللجوء إلى الحسم العسكري في حال استمرار "قسد" في التلكؤ. وقد جاءت تصريحات مسؤولين محليين لتؤكد جاهزية القوات الحكومية لأي تحرك عسكري ضد مناطق سيطرة "قسد"، في حال فشل التفاوض. ويشير مراقبون إلى أن وجود قوة مسلحة كبيرة خارج هيكل الدولة يشكل تهديدًا للأمن القومي، وقد يدفع الحكومة لاعتماد سياسة أكثر حزمًا.


السيناريوهات الممكنة
أمام هذا المشهد المعقد، تبدو الخيارات محدودة. فبين مسار تفاوضي طويل ومعقد، وضغوط دولية متفاوتة، واحتمالات التصعيد، تبقى المسألة رهينة المواقف الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الموقف الأمريكي الذي لا يزال متأرجحًا بين دعم "قسد" وضرورة اندماجها.


في المقابل، تبدو الحكومة السورية غير مستعدة لتقديم تنازلات تتجاوز السقف السيادي، لما لذلك من تداعيات على وحدة القرار الوطني، وخشية أن تتحول مطالب "قسد" إلى نموذج يُحتذى من قبل أطراف أخرى.


وفي ظل هذه المعطيات، يبقى مستقبل شرق سوريا معلقًا بين خيارين لا ثالث لهما: إما اندماج فعلي تحت مظلة دولة مركزية، أو تصعيد قد يُعقّد المشهد أكثر ويهدد أي فرصة لاستقرار طويل الأمد في البلاد.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 6