في خضم الانهيار الاقتصادي العميق والجمود السياسي المستمر، بات لبنان اليوم في قلب عاصفة إقليمية، تهدده بإعادة إنتاج تاريخه المضطرب، وربما إعادته فعلياً إلى مربع التبعية القديمة ضمن ما كان يُعرف بـ"بلاد الشام". هذا ما ألمح إليه مبعوث رئاسي أميركي في تصريحات أثارت الكثير من الجدل داخل الأوساط السياسية والإعلامية، بعد تحذيره من سيناريو كارثي قد يواجه لبنان في حال فشل في معالجة واحدة من أكثر القضايا حساسية: سلاح حزب الله.
ملامح أزمة وجودية
التحذير الأميركي لم يأتِ من فراغ. بحسب المبعوث، لبنان يقف اليوم بين تقاطعات ثلاثة قوى إقليمية تتنازع التأثير عليه: إسرائيل من جهة، إيران من جهة ثانية، وسوريا التي بدأت تبرز مجددًا كفاعل مباشر في المشهد. وإن استمر الوضع على ما هو عليه، يُخشى أن يفقد لبنان استقلالية قراره السياسي والأمني، ويعود عمليًا إلى حضن النفوذ الإقليمي المتشابك، كما كان الحال في عقود ماضية.
ويطرح المبعوث الأميركي تصورًا واضحًا للأزمة: إما أن ينجح لبنان في معالجة مسألة سلاح حزب الله، وإما أن يجد نفسه في مواجهة خطر وجودي يهدد بنيته كدولة مستقلة ذات سيادة.
مبادرة لنزع السلاح... ومخاوف الحرب الأهلية
ضمن إطار الحلول المقترحة، يجري الحديث عن "آلية دولية" تهدف إلى تسليم حزب الله سلاحه الثقيل طواعية، لا سيما الصواريخ والطائرات المسيّرة، على أن تتم مراقبة هذه الأسلحة تحت إشراف دولي يضم الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل إلى جانب الجيش اللبناني. هذه الرؤية تبدو أقرب إلى تمنيات سياسية منها إلى خطة قابلة للتنفيذ، في ظل ميزان القوى المحلي وتعقيدات الواقع الطائفي.
المبعوث الأميركي ذاته أقر بأن تطبيق مثل هذا السيناريو دون توافق وطني واسع قد يشعل فتيل نزاع داخلي جديد. فمحاولة نزع سلاح حزب الله بالقوة أو دون غطاء سياسي جامع قد يؤدي إلى انفجار أمني يعيد مشهد الحرب الأهلية إلى لبنان، وهو ما لا يريده أحد، محليًا أو دوليًا.
الجيش اللبناني في عين العاصفة
يعوَّل كثيرًا على الجيش اللبناني كجهة حيادية ومقبولة من مختلف الأطراف في إدارة المرحلة الانتقالية المفترضة، غير أن هذا الرهان يصطدم بواقع مؤلم: المؤسسة العسكرية تعاني من شح حاد في الموارد، بسبب الانهيار الاقتصادي المتسارع الذي أصاب مفاصل الدولة.
وتسعى الولايات المتحدة إلى توفير دعم مالي إضافي للجيش اللبناني من خلال شركائها الإقليميين، خاصة دول الخليج. لكن هذه الدول لا تزال مترددة، خشية أن ينتهي أي تمويل جديد في حسابات نخبوية أو يُستخدم خارج إطار الإصلاحات المنشودة.
لبنان يطلب الضمانات... وإسرائيل ترفض
في المقابل، حاولت السلطات اللبنانية الدفع بمبادرة تحمل نوعًا من التوازن: انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي المتنازع عليها، وعلى رأسها مزارع شبعا، مقابل إعادة تأكيد الدولة على مسؤوليتها في إدارة السلاح داخل أراضيها، بما في ذلك سلاح حزب الله في الجنوب.
لكن إسرائيل، بحسب المصدر الأميركي، ترفض حصر المسألة بجنوب لبنان، وتطالب بنزع سلاح الحزب في كل المناطق اللبنانية، ما يعقّد فرص التوصل إلى تسوية مرضية لكل الأطراف.
مأزق السيادة والتنمية
المعضلة التي يواجهها لبنان لا تقتصر فقط على الجانب الأمني، بل تشمل كذلك ربط المساعدات الدولية، خاصة الأميركية، بتقدّم ملموس في ملف نزع سلاح حزب الله. الولايات المتحدة تعتبر أن لا جدوى من إعادة الإعمار أو الاستثمار في بلد يخضع فيه القرار الأمني والسياسي لسلاح خارج سلطة الدولة.
ومع دخول الأزمة المالية عامها السادس، وتآكل احتياطي النقد الأجنبي، وتراجع الخدمات الأساسية إلى حدود غير مسبوقة، لا يبدو أن لبنان قادر على تحمّل مزيد من التأجيل أو التردد. المجتمع الدولي يشترط الإصلاحات، ويربط تقديم الدعم بمعالجة جوهرية لمشكلة السلاح خارج الدولة.
هل يفلت لبنان من العاصفة؟
الأزمة اللبنانية تبدو كأنها حلقة في صراع إقليمي أكبر، لا يمتلك لبنان فيه الكثير من مفاتيح القرار. ومع ذلك، فإن الخروج من هذا النفق لا يزال ممكنًا، إن توفرت إرادة داخلية للبحث عن تسويات واقعية تحفظ السيادة من دون أن تُغامر بالسلم الأهلي.
فالتهديدات المتزايدة، والتحذيرات الدولية، ليست مجرد دعاية سياسية، بل تعكس إدراكًا متزايدًا أن لبنان لم يعد يمتلك ترف الوقت. إعادة إنتاج اتفاق وطني جديد، شبيه بما جرى في اتفاق الطائف قبل عقود، قد تكون الطريق الوحيد لتجنيب البلاد العودة إلى زمن الوصاية، والانفجار الداخلي.
لبنان على مفترق طرق حاسم. إما السير في طريق استعادة الدولة وهيبتها، أو الانزلاق أكثر فأكثر نحو دوامة النفوذ الإقليمي والتفكك المؤسسي، وربما العودة إلى خارطة لم يرغب يومًا في أن يكون جزءًا منها من جديد.