في قلب العاصمة السورية دمشق، تصاعدت في الأسابيع الماضية أزمة قانونية عقارية دفعت عشرات التجار إلى الشوارع، وأشعلت سجالاً واسعاً بين الجهات الرسمية والفعاليات الاقتصادية. ما يُعرف بـ "التمديد الحكمي" أو "الفروغ"، الذي كان لعقود طويلة عرفاً قانونياً مستقراً في السوق، أصبح اليوم محور جدل يهدد استقرار مئات آلاف العائلات ويثير مخاوف من خسائر اقتصادية واجتماعية جسيمة.
ما هو الفروغ؟ ولماذا يثير الجدل؟
الفروغ هو شكل من أشكال حق الانتفاع التجاري بالعقارات، يعود بجذوره إلى المرسوم التشريعي رقم 111 لعام 1952، والذي منح المستأجرين، سواء في العقارات السكنية أو التجارية، حق التمديد التلقائي للعقود ما داموا مستمرين في إشغال المحل أو العقار. وبذلك، أصبح للفروغ قيمة مادية تُباع وتُشترى، وتُنظم عقودها قانونياً عبر الجهات الرسمية. وهو نظام نشأ في ظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة كلياً عن واقع اليوم.
ومع دخول الأزمة السورية عامها الرابع عشر، وتبدل البنية الاقتصادية والاجتماعية، عاد هذا النظام إلى الواجهة عبر قرار حكومي صدر في حزيران 2025 يقضي بتشكيل لجنة لدراسة قوانين التمديد الحكمي و"إيجاد حلول"، دون مشاركة الأطراف المعنية أو شرح آلية عمل اللجنة بوضوح.
ردة فعل التجار: الاعتصام بدل الانتظار
سارعت شريحة كبيرة من تجار دمشق إلى التعبير عن رفضهم لهذا القرار. ونُظمت اعتصامات أمام وزارة العدل في منطقة المزة، وأخرى أمام غرفة تجارة دمشق في الحريقة، شارك فيها تجار من مختلف أحياء العاصمة، بما في ذلك مناطق أسواقها التاريخية كالحريقة ومدحت باشا والبزورية.
الهتافات التي أُطلقت لم تكن مجرد احتجاجات روتينية، بل كانت إنذاراً حقيقياً لما وصفه بعضهم بـ "قطع أرزاق الناس". فالمحلات التي تم شراؤها عبر نظام الفروغ تمثل لأصحابها مصدر رزق ثابت، وارتبطت بها استثمارات كبيرة. في بعض الحالات، دفع المستثمرون مبالغ طائلة لقاء الحصول على حق الانتفاع بهذه العقارات، في ظل ظروف قانونية كانت واضحة ومستقرة.
الأزمة لا تقتصر على التجار فقط
ليست المشكلة محصورة في تجار دمشق، بل تتعداهم لتشمل شرائح اجتماعية متعددة، من مالكي العقارات الأصليين، إلى ورثة، إلى رجال دين، وحتى مؤسسات دينية مثل الكنائس والبطركيات التي تمتلك عقارات مؤجرة عبر الفروغ.
وما يزيد من تعقيد المشهد أن بعض العقارات شهدت تعاقباً في انتقال حق الفروغ من شخص إلى آخر لعقود طويلة، وغالباً ما يتم ذلك برضا مالك العقار الأصلي. إذ يحصل في معظم الحالات على نسبة مالية محددة من عمليات البيع تُعرف بـ "الرضوة"، وتبلغ غالباً 10% من قيمة الفروغ عند بيعه من مستثمر إلى آخر.
وبالتالي، فإن عملية شراء الفروغ لا تتم في الخفاء أو بالتحايل، بل عبر عقود رسمية وبعلم وتوقيع الطرفين، وغالباً بحضور محامين أو ممثلين عن الجهات المالكة الأصلية.
القرار الحكومي: لجنة بلا تمثيل تجاري؟
ما فجر غضب التجار، بحسب عدد من المشاركين في الاعتصامات، لم يكن مجرد قرار تشكيل اللجنة، بل طريقة اتخاذه دون التشاور مع الفئات المتضررة. فبحسب ما جرى تداوله، تم الاجتماع مع مالكي العقارات الأصليين فقط، وتم تجاهل ممثلي أصحاب الفروغ أو حتى غرفة تجارة دمشق التي تمثلهم قانونياً.
وقد دفع ذلك التجار إلى رفع مذكرات رسمية موقعة من المئات إلى وزارة العدل، مطالبين بمراجعة القرار وإشراكهم في أي لجنة يُعاد تشكيلها، مع التأكيد على أن أي قرار غير مدروس قد يؤدي إلى خلل اقتصادي واجتماعي واسع النطاق.
هل من حل وسط؟
تتراوح الطروحات المتداولة لحل الأزمة بين خيارين متناقضين:
العودة إلى جذور الفروغ باعتباره عقداً رضائياً، لا يمكن فسخه دون اتفاق الطرفين.
وإعادة النظر بالكامل في منظومة التمديد الحكمي، مع إعطاء مهلة زمنية انتقالية للتجار، وإيجاد بدائل قانونية عادلة تحفظ حقوق الطرفين.
لكن ما يخشاه التجار هو أن يُصار إلى اعتماد قرارات مفاجئة، تعيد مئات آلاف المحلات إلى "مالك الرقبة" تحت مبررات قانونية جديدة، دون تعويض المستثمرين عن الخسائر، أو حتى منحهم وقتاً كافياً لترتيب أوضاعهم.
أزمة تتجاوز الجغرافيا والاقتصاد
المقلق في هذه القضية أن آثارها لن تقتصر على سوق العقارات فقط. إذ ينظر كثيرون إلى الفروغ بوصفه ركيزة في المنظومة التجارية الدمشقية، ومنظومة ضمان اجتماعي واقتصادي لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
كما أن لها امتدادات قانونية معقدة، ترتبط بعقود عمرها أكثر من نصف قرن، وبتوريثات وتعديلات قانونية متتالية على مدى العقود الماضية.
وأي قرار سريع، غير متزن، من شأنه أن يفتح أبواب المحاكم لعشرات آلاف القضايا التي قد تستمر لسنوات طويلة دون حسم، وهو ما قد يضر بشكل مباشر بقطاع القضاء المنهك أصلاً، ويزيد من توتر المشهد الاقتصادي العام.
ضرورة التريث والحوار
ما يجري اليوم في دمشق هو أكثر من مجرد نزاع قانوني. إنه صورة مصغّرة عن هشاشة العلاقة بين الجهات الرسمية والمجتمع الاقتصادي في البلاد.
تسوية أزمة الفروغ لا تحتاج فقط إلى لجان قانونية، بل إلى وعي سياسي واجتماعي واقتصادي بأن مئات آلاف الناس لا يمكن معاملتهم كملف قانوني بحت.
أي إصلاح عقاري يجب أن يكون مدروساً، عادلاً، شفافاً، ويأخذ بعين الاعتبار التراكمات التاريخية والتعقيدات المجتمعية. لأن المسّ بحقوق مكتسبة منذ عقود، دون بدائل واضحة، قد يؤدي إلى زلزال اقتصادي واجتماعي لن يكون في صالح أحد.