تعود مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا إلى الواجهة مجددًا، وسط تعقيدات تقنية وسياسية تراكمت على مدى عقود من العلاقات المتوترة بين البلدين. رغم أنّ الخط الفاصل بين الدولتين الجارتين يبدو جغرافيًا واضحًا في الذهن العام، فإنّ تثبيته قانونيًا ورسمه رسميًا لم يتحقق بالكامل حتى اليوم، ما فتح المجال أمام أزمات متكررة، منها قضايا التهريب، والمخيمات الحدودية، والخلافات حول الموارد والمساحات المشتركة.
في تصريحات حديثة، أشار مسؤول لبناني رفيع إلى أن عملية الترسيم ليست بالأمر السهل، بل هي شديدة التعقيد، وتتطلب مقاربة دقيقة تشترك فيها لجان تقنية من الطرفين. ما يضفي على هذه المهمة حساسية إضافية هو أنها لا ترتبط فقط بالجغرافيا، بل تمتد لتلامس عمق العلاقة التاريخية والسياسية بين بيروت ودمشق.
مؤخرًا، أقدمت فرنسا على تسليم وثائق خرائطية تعود إلى بدايات القرن العشرين لكل من لبنان وسوريا. هذه الوثائق، التي أُعدّت في ظل الانتداب الفرنسي، تحمل في طياتها تصورًا حدوديًا أوليًا بين البلدين، وقد تكون بمثابة مرجعية تقنية مفيدة. لكن تعاطي الجهات الرسمية معها يتطلب خبراء مختصين في الجغرافيا والقانون الدولي، ما يشير إلى أن المرحلة القادمة ستكون بطابع تقني معقد بقدر ما هي سياسي.
أهمية هذه الخطوة لا تكمن فقط في بعدها الفني، بل في دلالتها السياسية أيضًا، إذ يُفهم منها أن دمشق تُبدي حاليًا استعدادًا أكبر للتعاون مع بيروت في ملف الحدود، وهو أمر لم يكن متاحًا سابقًا بالشكل ذاته. إذ لطالما اعتُبرت العلاقة اللبنانية السورية مضطربة، خاصة في ظل أنظمة سابقة كانت تنظر إلى لبنان باعتباره امتدادًا جغرافيًا وثقافيًا لسوريا وليس كدولة ذات سيادة كاملة.
في هذا السياق، فإن أي تقدم في ملف الترسيم من شأنه أن يُسهم في معالجة ملفات أخرى مترابطة، مثل عودة اللاجئين السوريين، وضبط التهريب، وتسوية ملف المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سوريا. كما أن استقرار الوضع الحدودي من شأنه أن يفتح الباب أمام تعاون اقتصادي أشمل، خاصة في حال تحسّنت الأوضاع الإقليمية ورفعت العقوبات المفروضة على سوريا، ما قد ينعكس إيجابًا على لبنان أيضًا.
بيروت تنتظر زيارة رسمية مرتقبة لوفد سوري رفيع، يتوقع أن يناقش سلسلة من الملفات العالقة، في مقدمتها ترسيم الحدود وعودة النازحين. ورغم أن الطريق لا يزال طويلًا، فإن مجرد تفعيل الحوار الرسمي بين الجانبين على قاعدة الاحترام المتبادل يُعتبر خطوة متقدمة مقارنة بالمراوحة الطويلة التي ميّزت العلاقة في السنوات الماضية.
لبنان اليوم يرى في ترسيم الحدود أولوية وطنية لا يمكن تأجيلها، ويرغب في أن تكون هذه الخطوة بداية لتطبيع متدرّج مع الجارة السورية، بعيدًا عن وصاية الماضي، وباتجاه شراكة واقعية قائمة على السيادة والتعاون المتوازن.