من يجفف نبع الفيجة؟ أزمة بلا شماعات

رزان الحاج

2025.07.03 - 11:31
Facebook Share
طباعة

 تواجه العاصمة دمشق واحدة من أشد أزماتها المائية منذ عقود، مع تراجع غير مسبوق في تصريف نبع الفيجة، المصدر الرئيسي لمياه الشرب لنحو خمسة ملايين نسمة. وخلال شتاء 2024/2025، سجل النبع أدنى مستوى تصريف له منذ أكثر من ستين عاماً، ما أثار تساؤلات وهواجس شعبية حول الأسباب، وتحديداً عن دور إسرائيل المحتلة في تجفيف موارد المياه السورية من خلال حفر آبار عميقة في منطقة جبل الشيخ. وبينما يُتداول هذا التفسير على نطاق واسع، تُظهر المراجعة العلمية للمعطيات الهيدرولوجية والمناخية والإدارية أن القصة أكثر تعقيدًا من مجرد إلقاء اللوم على طرف خارجي.

جبل الشيخ، بقمته المغطاة بالثلوج، يُعد خزاناً طبيعياً للمياه يغذّي العديد من الينابيع في المنطقة، من بينها نبع الفيجة في وادي بردى. التركيبة الجيولوجية الكارستية لهذا الجبل تسمح بتسرّب المياه الثلجية وتوجيهها أفقيًا نحو الشرق، لتغذية حوض بردى–الفيجة، بينما يتجه جزء آخر نحو ينابيع الأردن غربًا. غير أن تراجع الهطل المطري وارتفاع درجات الحرارة خلال العقود الأخيرة أثّرا بشدة على مخزون المياه الجوفية. وبحسب البيانات المناخية، تراجع معدل الهطل المطري في دمشق بمعدل متسارع منذ عام 1990، ووصل خلال شتاء 2024/2025 إلى 25% فقط من المعدل المعتاد.

رغم الجدل الدائر حول الآبار الإسرائيلية في مرتفعات الجولان، تشير تحليلات الخبراء إلى أن هذه الآبار تستخرج مياهها من أعماق مختلفة عن الخزان الذي يغذي نبع الفيجة. نماذج المحاكاة الهيدرولوجية تظهر أن تأثير هذه العمليات يبقى ضمن نطاق محدود، ولا يصل إلى خط تقسيم المياه المؤثر على منابع دمشق، لا اليوم ولا في المدى المنظور.

في المقابل، هناك عوامل داخلية واضحة لا يمكن تجاهلها. توسّع الحفر العشوائي للآبار في ريف دمشق خلال السنوات الأخيرة أدى إلى هبوط حاد في منسوب المياه الجوفية. عدد الآبار غير المرخصة تضاعف ثلاث مرات منذ عام 2010، وارتفعت معها نسب الاستنزاف المحلي. أضف إلى ذلك، أكثر من 45% من المياه تُهدر في شبكة التوزيع نتيجة التسريب وسوء الصيانة، ما يجعل نظام المياه هشاً حتى في الظروف العادية. وقد فاقمت الحرب من تعقيد المشهد، مع تعرّض البنى التحتية الحيوية للتدمير أو التخريب، وخروج أجزاء كبيرة من نظام نقل المياه عن الخدمة لفترات طويلة.

أما المناخ، فهو عامل ضاغط يزداد تأثيره مع مرور الزمن. التوقعات المستقبلية تشير إلى انخفاض إضافي في الهطل بنسبة 20% حتى عام 2080، ما سيؤدي إلى مزيد من الانخفاض في تصريف الينابيع ما لم يتم اتخاذ إجراءات فعالة.

في المحصلة، فإن أزمة مياه دمشق هي نتاج تراكب عوامل عديدة: مناخية، إدارية، بنيوية، وتكنولوجية، مع دور خارجي محدود حتى الآن. استمرار الخطاب الذي يُحمّل جهة خارجية المسؤولية الكاملة قد يريح البعض نفسيًا، لكنه لا يقدم حلولاً عملية. المطلوب اليوم هو الانتقال من سردية اللوم إلى رؤية إصلاحية واضحة، تبدأ من الداخل: إدارة صارمة للآبار، تقليل الفاقد في الشبكة، تحفيز الابتكار في التحلية والمعالجة، وتعزيز الشفافية في تبادل البيانات الإقليمية.

إنقاذ نبع الفيجة لا يتطلب البحث عن "العدو" فقط، بل يتطلب إعادة بناء الثقة بإمكانية الإصلاح والتعاون، قبل أن تجفف الأزمة ما تبقى من الأمل.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 2