في تصعيد جديد يُعيد إلى الواجهة مشهد التوتر الأمني الذي تعيشه مناطق شمال وشرق سوريا، برز نشاط متزايد لتنظيم "الدولة الإسلامية" خلال شهر حزيران/يونيو، عبر سلسلة من الهجمات التي استهدفت مناطق تقع تحت سيطرة "الإدارة الذاتية"، وتحديدًا في محافظات دير الزور والرقة والحسكة.
على الرغم من مرور سنوات على انهيار "الخلافة" المعلنة للتنظيم وخسارته لمعاقله الأساسية، إلا أن التطورات الميدانية الأخيرة تكشف عن استمرار وجوده كقوة أمنية غير منظورة، تعتمد على تكتيكات حرب العصابات وتعمل من خلال خلايا نائمة منتشرة في المناطق الريفية، مستفيدة من الطبيعة الجغرافية المعقدة، والهشاشة الأمنية، والانقسامات المحلية.
تصاعد ملحوظ في الهجمات.. 13 عملية خلال شهر
شهد شهر حزيران وحده 13 عملية مسلحة نفذتها خلايا مرتبطة بالتنظيم، توزعت على النحو التالي:
11 عملية في محافظة دير الزور، شملت هجمات بالأسلحة الرشاشة وكمائن وعبوات ناسفة وعمليات اغتيال.
عملية واحدة في محافظة الرقة أدت إلى مقتل ثلاثة عناصر من قوات سوريا الديمقراطية.
عملية واحدة في محافظة الحسكة استهدفت صهاريج نفط على طريق استراتيجي.
أسفرت هذه الهجمات عن مقتل ستة أشخاص، بينهم أربعة عسكريين ومدنيان، إلى جانب إصابة آخرين وتسجيل أضرار مادية في عدد من المواقع المستهدفة.
دير الزور.. بؤرة النشاط الأخطر
برزت محافظة دير الزور، وخاصة مناطقها الشرقية والغربية، كمسرح رئيسي لنشاط التنظيم، حيث تركزت معظم العمليات في بلدات مثل الشحيل، الصبحة، محيميدة، درنج، وذيبان، وهي مناطق تُعرف بكونها معاقل تقليدية سابقة للتنظيم.
التنظيم يبدو وكأنه يعيد رسم خرائط نفوذه الرمزي في هذه المناطق، مستفيدًا من تراجع الحضور الأمني وتنامي الغضب الشعبي على السياسات المحلية، فضلًا عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المنطقة.
تنوّع تكتيكي في أساليب الهجوم
الهجمات الأخيرة كشفت عن تطور في تكتيكات التنظيم، الذي لا يعتمد على نوع محدد من العمليات، بل ينفّذ عملياته بمرونة تكتيكية عالية:
تفجيرات بواسطة عبوات ناسفة تستهدف سيارات ودوريات عسكرية.
إطلاق نار مباشر على شخصيات مدنية وعسكرية، غالبًا من دراجات نارية.
استهداف حواجز أمنية ونقاط تفتيش تابعة لـ"قسد" أو "الأسايش".
هجمات نوعية على صهاريج النفط التابعة للإدارة الذاتية، بهدف ضرب البنية الاقتصادية للمناطق المستهدفة.
إلقاء قنابل يدوية على محال تجارية وفرض الزكاة بالقوة، في محاولة لاستعادة أدوات السيطرة المجتمعية السابقة.
رسائل متعدّدة خلف التصعيد
رغم خسارته الأراضي، إلا أن التنظيم ما زال يسعى لترسيخ نفسه كفاعل رئيسي في المعادلة الأمنية من خلال:
- إظهار أنه لم يُهزم بالكامل، بل أعاد تنظيم نفسه في خلايا متنقلة تعتمد على الكمائن والضربات المباغتة.
- بث الرعب وزعزعة الاستقرار في المجتمعات المحلية، عبر استهداف وجهاء العشائر وأصحاب النفوذ.
- ضرب هيبة القوى الأمنية، خصوصًا بعد استهداف متكرر لنقاط "قسد" و"الأسايش".
- فرض الأيديولوجيا مجددًا، كما حدث في الحادثة الأخيرة التي شهدت إلقاء قنبلة على محل صرافة بسبب رفض صاحبه دفع الزكاة.
هذه الرسائل، مجتمعة، تُشكّل تهديدًا مزدوجًا: فهي تضعف الردع الأمني، وتعمّق فجوة الثقة بين السكان والقوى المسيطرة.
السياق العام.. هشاشة أمنية وفراغات خطرة
تأتي هذه التطورات في ظل سياق معقد يشمل:
- غياب توافق سياسي شامل بين القوى المحلية والدولية حول مستقبل المنطقة.
- تضارب في النفوذ بين قوى محلية متعددة، بينها "قسد"، العشائر، ومجموعات موالية لأطراف خارجية.
- انشغال الإدارة الذاتية في ملفات إدارية وخدمية، أضعف تركيزها على مكافحة التسلل الأمني.
كل هذه العوامل تشكّل أرضًا خصبة لنمو نشاط التنظيم وتمدده مجددًا، مستغلًا الفوضى المحلية لصالح مشروعه القائم على استنزاف خصومه وفرض نفسه عبر الإرهاب المتنقل.
الهجمات الأخيرة تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن تنظيم "الدولة الإسلامية" لا يزال فاعلًا في المشهد الأمني السوري، خاصة في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة المركزية. التنظيم لم يعد بحاجة للسيطرة على الأرض، بقدر حاجته لإثبات وجوده وفرض سطوته المعنوية عبر الرعب.
الرد على هذه التهديدات يتطلب إستراتيجية أمنية مختلفة، تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمعات المحلية، وتُعزّز من الحضور المجتمعي في جهود الاستقرار، إلى جانب تطوير القدرات الاستخباراتية.