منذ أواخر عام 2017، تعيش قرية الهري الواقعة في ريف مدينة البوكمال شرقي دير الزور، على وقع مأساة إنسانية لا تزال فصولها مفتوحة حتى اليوم. فقد اختفى نحو 180 رجلاً وشاباً من أبناء القرية، عقب حملة اعتقالات جماعية نفذتها فصائل مسلّحة عقب انسحاب تنظيم "الدولة الإسلامية" من المنطقة، تحت ذريعة محاربة خلايا التنظيم وملاحقة من يشتبه بانتمائه إليه.
هذه الاعتقالات، التي جاءت ضمن حملة أمنية غير شفافة، استهدفت بشكل رئيسي الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً. تم اقتيادهم إلى وجهات مجهولة بعد مداهمات مفاجئة لمنازلهم، أو عبر حيل وادعاءات مثل توزيع مساعدات إنسانية، ثم احتجازهم دون محاكمة، أو السماح لعائلاتهم بمعرفة مصيرهم.
ومنذ ذلك اليوم، يعيش أهالي قرية الهري في حالة من الانتظار المؤلم، وسط غياب أي معلومات مؤكدة عن مصير أبنائهم، فلا يُعرف إن كانوا على قيد الحياة أم لقوا حتفهم داخل مراكز احتجاز غير معروفة. العائلات، التي باتت تعاني من فقدان معيلين وأبناء، طرقت كل الأبواب، من جهات رسمية ومؤسسات محلية إلى منظمات دولية، لكن دون جدوى تُذكر.
وبينما يشير الأهالي إلى أن الفصائل المسؤولة عن هذه الحملة كانت مدعومة من جهات إقليمية وتتمتع بنفوذ واسع، تبقى المساءلة غائبة، والتحقيقات معدومة. تتضاعف معاناة ذوي المفقودين مع مرور السنوات، في ظل غياب أي مبادرة فعلية لكشف الحقائق أو تقديم الدعم النفسي والقانوني للأهالي المتضررين.
المأساة لا تقتصر فقط على الجانب الإنساني، بل تتعداها إلى الأثر الاجتماعي والاقتصادي الكبير. فالقرية فقدت العشرات من أبنائها ممن كانوا يشكلون عماد الأسر ومصدر دخلها، ما زاد من معدلات الفقر والتفكك الاجتماعي. كما أن حالة الخوف والقلق المستمرة حرمت سكان القرية من الشعور بالأمان والاستقرار، وجعلتهم يعيشون في قلق دائم من تكرار مثل هذه الانتهاكات.
في ظل هذا الواقع، ترتفع أصوات أهالي الهري مجددًا مطالبة المجتمع الدولي بالتدخل العاجل وفتح تحقيق مستقل وشفاف في مصير المفقودين، ومحاسبة الجهات التي نفذت عمليات الاعتقال، سواء كانت محلية أو عابرة للحدود. كما يدعو الأهالي الجهات الحقوقية الدولية لتشكيل لجنة تقصي حقائق والعمل على إعادة الاعتبار للضحايا وذويهم.
المطالبة اليوم لا تقتصر على كشف المصير فحسب، بل تشمل أيضًا تعويض المتضررين وإنصاف العائلات، في محاولة لاستعادة جزء من الثقة المفقودة بالعدالة، خاصة في المناطق التي عانت من تغوّل القوى المسلحة وغياب القانون.
في النهاية، تظل قضية المفقودين في قرية الهري شاهداً حيّاً على معاناة السوريين في زمن الحرب، وعلى ضرورة إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب التي ما زالت تحرم آلاف العائلات من معرفة الحقيقة، والبدء بمسار جاد للعدالة والمصالحة.