بعد أكثر من خمسة أشهر على سقوط نظام الأسد، بدأ بعض السوريين يزورون وطنهم مجددًا أو يخططون للعودة والاستقرار، لكن الكثيرين ما زالوا مترددين أو رافضين العودة، بسبب مخاوف متعددة تتعلق بالأمن، الخدمات، ومستقبل البلاد.
يرتبط هذا التردد بمجموعة عوامل شخصية واجتماعية وسياسية، تختلف باختلاف الأجيال والمناطق التي ينتمي إليها السوريون في المهجر، فقد نشأت أجيال كاملة خارج سوريا، لا تعرف إلا صورة مبهمة عن وطنها، في حين يعاني آخرون من جروح عميقة مرتبطة بفقدان أحبائهم أو استمرار حالة عدم الأمان.
من بين هذه الأجيال، جيل حماة الثالث الذي وُلد وترعرع في بلاد المهجر بعد مجزرة الثمانينات، الذين زاروا سوريا فقط في فترات محدودة وقصيرة، ولا يعرفون تفاصيل الحياة اليومية في وطنهم. يقول البعض منهم إن العودة للاستقرار تبدو خيارًا غامضًا، ومخاوفهم تنبع من حالة الفوضى وعدم وجود نظام مستقر للخدمات الأساسية كما عايشوه في دول المهجر، مثل السعودية وتركيا.
لكن هؤلاء الجيل الثالث مع ذلك يحملون في أعماقهم مسؤولية تجاه وطنهم، ويأملون في أن يساهموا في إعادة البناء، رغم أن قرار الاستقرار الدائم لا يزال معلقًا في ظل الظروف غير الواضحة التي تحيط بسوريا اليوم. بالنسبة لهم، الزيارة القصيرة قد تكون بداية لفهم أفضل لما ينتظرهم، وربما تنعكس إيجابيًا على قرارهم بالمستقبل.
أما آخرون، فتعود مخاوفهم إلى غياب العدالة والضمانات الأمنية، فهم يرون أن غياب العدالة الانتقالية، وعدم التعامل الجاد مع ملف المعتقلين والشهداء، يخلق حالة من انعدام الثقة تجاه السلطة الجديدة، والتي لم تقدم حتى الآن أي خطوات واضحة لوقف الانتهاكات أو ضمان حقوق الضحايا. هؤلاء يشعرون بأن العودة تعني تعريض حياتهم ومبادئهم للخطر، خاصة النساء والفنانات والمدافعات عن حقوق الإنسان، حيث يواجهن تحديات إضافية من حيث التهميش والاضطهاد.
بالنسبة لفئة أخرى، تمثل الخدمات الأساسية شرطًا حاسمًا في اتخاذ قرار العودة. يجد الكثيرون الذين يعيشون في دول كتركيا، أن وجود نظام صحي متطور وفرص تعليمية وحياة مستقرة، يجعل فكرة العودة إلى سوريا، حيث تتدهور تلك الخدمات، أمرًا صعبًا ومخيفًا. هذه المقومات لا تعني فقط البنية التحتية، بل تعني أيضًا الأمان الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما مازال بعيدًا عن واقع كثير من المدن السورية.
من جهة أخرى، تعاني سوريا من مشكلة انتشار السلاح والفوضى الأمنية التي تجعل بعض المناطق غير مستقرة، رغم أن العاصمة وبعض المدن الأخرى تبدو أكثر استقرارًا أمنياً. هذا الواقع يضع السوريين في موقف حرج، لأنهم لا يرغبون في أن يكونوا ضحايا لأعمال عنف عشوائية أو صراعات قبلية ومسلحة، مما يثقل كاهل قرار العودة والاستقرار.
في هذه الأثناء، تعمل الدولة على توحيد المؤسسة العسكرية ودمج الوحدات المختلفة ضمن إطار رسمي، في محاولة لوضع حد لفوضى السلاح وضمان الأمن، لكن تحقيق هذه الأهداف يحتاج إلى وقت وجهود كبيرة.
وعلى الصعيد السياسي، أعلنت الحكومة عن تشكيل هيئتين وطنيتين مستقليتين للعدالة الانتقالية وحقوق المفقودين، في خطوة تهدف إلى معالجة ملفات الانتهاكات والأضرار التي خلفتها سنوات الصراع، إلا أن تأثير هذه الخطوة على ثقة الناس لا يزال محدودًا حتى الآن.
من جانب آخر، رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا يشكل فرصة اقتصادية مهمة قد تساهم في إعادة بناء البنية التحتية وتنشيط القطاع الخاص، وهو ما قد يحفز جزءًا من المهجرين للعودة أو زيارة بلادهم، خصوصًا مع تحسن الخدمات وفرص العمل.
لكن في نهاية المطاف، يبقى الشعور بالانتماء والحنين إلى الوطن متداخلًا مع المخاوف الواقعية، فالكثير من السوريين في المهجر لا يعتبرون مكان إقامتهم الحالي وطنًا بديلًا، بل هم يعيشون حالة مزدوجة من الانتماء والاغتراب، يصعب عليها اتخاذ قرار العودة حتى يتم توفير بيئة آمنة ومستقرة تضمن حقوقهم وحرياتهم.
من هنا، يتضح أن التحديات التي تواجه عودة السوريين ليست فقط أمنية أو اقتصادية، بل تتعلق أيضاً بجوانب اجتماعية وسياسية تحتاج إلى معالجة شاملة. إن بناء الثقة وتوفير العدالة والحياة الكريمة هو الطريق الوحيد لجعل الحنين إلى الوطن يصير قرارًا حقيقيًا بالعودة لا مجرد حلم مؤجل.