تشهد الساحة السورية تحولات جذرية منذ سقوط نظام بشار الأسد، وتشكيل حكومة جديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. هذا التغيير السياسي أطلق سلسلة من التفاعلات الإقليمية والدولية، كان أبرزها تحرك الولايات المتحدة نحو إعادة تشكيل علاقاتها مع دمشق. وعلى الرغم من التاريخ الطويل من التوتر بين واشنطن والنظام السوري السابق، فإن المعادلة الجديدة تُبنى على أساس "التقاطع المشروط" لا القطيعة الكاملة، وهو ما ظهر جليًا في قمة الرياض التي جمعت ترامب والشرع في مايو/أيار 2025.
تتوزع معادلة الدور الأميركي في سوريا ما بعد الأسد على ثلاثة محاور رئيسية: تخفيف العقوبات مقابل التزامات سياسية، إدارة الحساسيات الأمنية مع إسرائيل، ومستقبل العلاقة بين واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في ظل النظام الجديد.
1. العقوبات: من العزل إلى الانخراط المشروط
لقاء ترامب والشرع في الرياض، برعاية سعودية ومشاركة تركية وقطرية، مثّل لحظة فارقة في تاريخ العلاقات الأميركية السورية. إذ لم يسبق أن التقى رئيس أميركي بنظيره السوري منذ أكثر من عقدين. هذا اللقاء الذي عارضه بعض مستشاري ترامب في البداية، أسفر عن إعلان نية الولايات المتحدة تخفيف العقوبات تدريجيا، مقابل حزمة مطالب صاغها البيت الأبيض.
واشنطن اشترطت خطوات محددة تتعلق بالتطبيع مع إسرائيل، إنهاء الوجود العسكري الأجنبي، تفكيك الفصائل الفلسطينية المسلحة في سوريا، التعاون في مكافحة الإرهاب، وتحمل الحكومة الجديدة مسؤولية مراكز اعتقال عناصر تنظيم الدولة.
التحول الأميركي لم يأتِ فجأة، بل كان ثمرة وساطات نشطة قادتها السعودية وتركيا وقطر، رغبةً في إعادة إدماج سوريا في محيطها الإقليمي والدولي، وتمهيد الطريق لإعادة الإعمار. في المقابل، أبدى الشرع مرونة واضحة، وأعلن انفتاحه على هذه الشروط، مؤكداً التزامه باتفاق فك الاشتباك مع إسرائيل، واستعداده للمشاركة في مشاريع "السلام الإقليمي" مستقبلًا.
2. واشنطن بين دعم إسرائيل واستقرار سوريا
رغم استمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع داخل سوريا، خصوصًا جنوب دمشق، امتنعت واشنطن عن إدانة تلك الهجمات. لكنها دعت إلى "خفض التصعيد" و"حماية الأقليات الدينية"، وهو ما فسّره البعض على أنه انحياز ضمني لإسرائيل، دون تقويض العملية الانتقالية في سوريا.
تسعى الولايات المتحدة لتثبيت نوع من التوازن: الحفاظ على شراكتها الأمنية مع إسرائيل، دون السماح بزعزعة الاستقرار في سوريا الجديدة. ويبدو أن واشنطن تنظر بقلق إلى محاولات إسرائيل فرض أمر واقع على الأرض، مستغلة هشاشة الوضع السوري، ولذلك ترفض -حتى الآن- طلبات تل أبيب بالإبقاء على العقوبات المشددة على دمشق.
كما أن إشارات الانفتاح السوري على إسرائيل، ومنها تصريحات الشرع حول محادثات غير مباشرة، تعكس استعدادًا لتقليل التوتر جنوبًا، بما يخدم الرؤية الأميركية لاستقرار سياسي وأمني بعيد المدى.
3. قسد: دمج هش وتحولات في السياسة الأميركية
قوات سوريا الديمقراطية، الحليف الرئيسي لواشنطن في الحرب ضد تنظيم الدولة، تواجه اليوم مفترق طرق. فمع تشكيل الحكومة السورية الجديدة، تراجعت أولوية قسد لدى الولايات المتحدة، التي بدأت نقل عبء المسؤولية الأمنية إلى دمشق.
اتفاق مارس/آذار 2025 بين قسد والحكومة السورية مثّل بداية لإعادة دمج الإدارة الذاتية الكردية في الدولة، بما يشمل المؤسسات المدنية والعسكرية وحقول النفط والحدود. ومع أن واشنطن رحبت بالاتفاق، فإنها لم تحدد جدولًا زمنيًا لانسحاب قواتها من شمال وشرق سوريا، مما أوجد حالة من الغموض والتوتر.
في الداخل، أثار الاتفاق انقسامات داخل صفوف قسد، وقلقًا من خسارة مكتسبات سياسية وثقافية، بينما طالبت تركيا بإخراج مقاتلي حزب العمال الكردستاني وضمان أمن حدودها، وهو ما يعقّد تنفيذ الاتفاق.
لكن التحول الأبرز جاء من قمة الرياض، حيث طلبت واشنطن من الحكومة السورية تسلم مسؤولية مراكز اعتقال مقاتلي تنظيم الدولة التي تديرها قسد، وهو ما يُعد مؤشرًا على تغيير في أولويات واشنطن، باتجاه التعامل مع السلطة المركزية بدل الكيانات غير الرسمية.
ختامًا
الاستراتيجية الأميركية الجديدة في سوريا لا تقوم على الانسحاب أو التخلي، بل على إعادة التموضع وفق موازين القوى الجديدة. فواشنطن تعمل على ضبط سلوك النظام عبر أدوات النفوذ الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي. هذا التحول يضعها في موقع "المُوازن" بين مصالح إسرائيل الأمنية، ومتطلبات استقرار سوريا الجديدة، ويجعل من إدارة العلاقة مع قسد اختبارًا لقدرة دمشق على احتواء الأطراف المحلية دون إشعال نزاعات جديدة.
ما ينتظر سوريا، وفق هذا السيناريو، ليس مجرد تعافٍ اقتصادي أو عودة للعلاقات الدولية، بل عملية طويلة ومعقدة لإعادة تعريف دور الدولة وعلاقاتها الإقليمية، في ظل رقابة أميركية مشروطة.