بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، يعود شبح الأسلحة الكيماوية ليطلّ من جديد على الساحة الدولية، كاشفًا عن فصول غير مكتملة من ملف ظلّ مغلقًا عمدًا أو تغافلًا. ففي تقرير حديث صدر عن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، تبين أن سوريا تضم أكثر من 100 موقع يُشتبه باحتوائها على مواد كيماوية خطيرة، وهو رقم يتجاوز كل التقديرات السابقة، ويضع الحكومة السورية الجديدة أمام اختبار مصيري.
بين الماضي والحاضر: ذاكرة لم تُمحَ
منذ انطلاق الاحتجاجات السورية عام 2011، اتُّهم نظام بشار الأسد مرارًا باستخدام أسلحة كيماوية لقمع المعارضة، في انتهاكات صارخة للقوانين الدولية. الهجوم الشهير على الغوطة الشرقية في أغسطس 2013، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 1400 شخص باستخدام غاز السارين، لم يكن سوى أحد أوجه هذا الملف المظلم. ورغم انضمام سوريا لاحقًا إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، فإن الثقة في شفافية النظام لم تُستعد قط.
اكتشافات متأخرة أم اعترافات متأخرة؟
الزيارات الأخيرة التي قام بها مفتشو المنظمة في نهاية مارس، كشفت عن خمسة مواقع جديدة لم تُعلن سابقًا، بعضها تعرّض للتدمير، والبعض الآخر كان مخفيًا في مناطق يصعب الوصول إليها. هذه المواقع كانت في عهد النظام السابق تُستخدم لأغراض البحث، التصنيع، أو التخزين. واللافت أن بعضها لم يكن مدرجًا أصلاً ضمن قائمة المواقع التي قدمتها الحكومة لمنظمة حظر الأسلحة، ما يُعزز فرضية التعتيم المتعمد.
معلومات هذه المواقع جاءت استنادًا إلى بيانات استخباراتية ومصادر بحثية متعددة، شملت دولًا أعضاء في المنظمة، بالإضافة إلى شهادات من علماء سوريين منشقين ومقيمين في الخارج، ممن كانوا جزءًا من البرنامج الكيماوي للنظام.
تطورات دبلوماسية: محاولة للانفتاح؟
التحوّل اللافت في الخطاب الرسمي السوري تمثّل في تصريحات وزير الخارجية، أسعد الشيباني، الذي أكد في مارس الماضي التزام بلاده بـ"إغلاق صفحة الأسلحة الكيماوية نهائيًا"، مشددًا على أن سوريا تسعى لتدمير كل ما تبقى من البرنامج الذي تم تطويره في عهد النظام السابق.
وجاءت مشاركة سوريا للمرة الأولى في اجتماع المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في لاهاي، كمؤشر على رغبة محتملة في إعادة تأهيل الدولة دبلوماسيًا، خصوصًا في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة.
شهادات من الداخل والخارج: ما خُفي أعظم
رائد الصالح، وزير الطوارئ والكوارث السوري حاليًا ومدير "الخوذ البيضاء" سابقًا، أكد أن النظام السابق قدّم معلومات مضللة عن مواقع الأسلحة، مما أعاق جهود التوثيق والتفتيش لسنوات. بدوره، أشار نضال شيخاني، رئيس مركز توثيق الانتهاكات الكيماوية، إلى أن فريقه حدد مواقع جديدة مستندًا إلى مقابلات مباشرة مع عناصر فنية كانت تعمل في البرنامج الكيماوي، وهربت لاحقًا إلى أوروبا.
هذه المعطيات توضح حجم التستر السابق، وتُبرز أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المنشقون في استكمال التحقيقات، شرط أن تتوفر لهم الحماية الكافية.
مسؤولية دولية: المجتمع الدولي في قفص الاتهام أيضًا
منذ هجوم الغوطة وحتى اليوم، شُنت أكثر من 217 هجمة كيماوية بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، معظمها نُسب لقوات الأسد، فيما التزمت بعض الدول الصمت أو اقتصرت على إدانات شكلية. فهل كان هناك تقصير متعمد؟ وهل تتحمل قوى كبرى جزءًا من المسؤولية في السماح باستمرار هذه الجرائم؟
رغم تدمير 1300 طن من المواد الكيماوية المعلنة، فإن الشكوك لم تتبدد أبدًا حول وجود مخازن سرية، وهو ما تؤكده نتائج ثلاثة تحقيقات مستقلة، أجرتها آلية التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية.
المستقبل: هل يمكن طيّ صفحة الكيماوي في سوريا؟
المرحلة الراهنة قد تكون حاسمة في إعادة صياغة المشهد السوري، ليس فقط من باب نزع السلاح الكيماوي، بل من زاوية المصالحة مع الماضي وتحقيق العدالة للضحايا. تدمير ما تبقى من هذا البرنامج ليس عملية تقنية فقط، بل خطوة رمزية تؤسس لمرحلة جديدة، تُبنى على الشفافية والمحاسبة.
لكن من دون تحقيقات مستقلة ومحاكمات عادلة، ستظل الجراح مفتوحة، وسيبقى الإرث الكيماوي السوري كابوسًا حاضرًا في الذاكرة الجماعية.
الملف الكيماوي السوري لم يُغلق بعد، رغم محاولات دفنه تحت ركام الحرب والتقادم السياسي. المواقع المكتشفة حديثًا تعيد فتح النقاش حول مدى التزام النظام الحالي بقرارات المجتمع الدولي، وتطرح تساؤلات حرجة حول مصير العدالة في سوريا. فهل يكون هذا الكشف الجديد بداية النهاية لحقبة كيماوية دامية، أم مجرد فصل آخر في قصة طويلة من الإنكار والإفلات من العقاب؟