الزمنُ يمرُ سريعاً ويَعبرُ من خِلال كُل شيء.. لكن عند القانون يتوقف.. وتبقى بعضُ القوانين مُترهلة تُعاني من الصدأ لا تتناسبُ مع عصرِ السرعة، ولا تتناسب مع المعاصرين لهذا الزمن. وبالتالي تبعياتها ستطالُ من يحتاجها وقد لا تنصفه. إذاً ما الحل في هذه الحالة وما الإجراءات التي قد تنقذ المعاصرين في التعامل مع القوانين الجامدة منها؟
لوكالة أنباء آسيا يتحدث المحامي الأستاذ منيب هائل اليوسفي فيخبرنا أن من صفات القانون أي قانون هو الشمولية أي أن يكون عاماً وشاملاً من حيث الزمان والمكان ، يخضعُ له كل المواطنين ودونما تفريق، إلا بما نص عليه القانون نفسه.
ولذلك فإن أي خلل في تنفيذ القانون يصيبُ القانون نفسه بالعطبِ، ويسقطُ هيبته ويشكك المواطنين بسلامته وجدواه ، والحديث عن أهمية العدالة بكل معانيها " من باب تحصيل الحاصل " وهناك مقولة مُهترئة لكثرة ما رددها الناس منذ أيام الحرب العالمية الثانية وحتى الآن وعلى لسان رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ونستن تشرشل حين تهدمت مرافق بريطانية واستشرى الفساد ، راح يسأل عن أحوالها ، فلما وصل بسؤاله إلى القضاء قالوا له انه بخير ، فأجاب بارتياح شديد : إذن بريطانيا بخير.
فالقانون في جسم الأمة كالرأس في جسم الإنسان ، وهذا معناه إن سلم الرأس سلمت بقية أعضاء الجسم ، ومن هنا تبرز أهمية الحديث عن القانون وما حوله ، ولا أريد هنا أن استعرض ما يدور في أذهان الناس من تطلعات وما يعلقون به على تسيب في تطبيق القانون ، إنما الذي أريد التأكيد عليه إن الأداء الجيد للنظام القضائي عنصر أساسي من عناصر مهمات دولة القانون باعتباره يساهم إلى حد بعيد في تحسين الأداء الديمقراطي للأفراد والمؤسسات والمنظمات ، وكي نضمن استمرار هذا الأداء الجيد وتطوره بما يتناسب وحاجات الإفراد لابد من أن نحكم القاعدة الشرعية التي تقول : لا ينكر تغير الأحكام بتغير المواطنين . بمعنى إن النصوص القانونية ليست جامدة ، وإنما هي ضوابط لمتغيرات تتسارع أو تتراكد حسب مقتضيات التطور الاجتماعي ، وبالتالي نجد أن النظام القضائي الحديث والفعال محكوم بعدة مترافقات منها التي تقول إن القضاء خدمة عامة ومجانية .
ومن نافلة القول أن أهمية مرفق العدالة يختلف عن سواه من مرافق الدولة فالقضاء يؤدي خدمة عامة تختلف عن بقية الخدمات فهو ليس إدارة عادية من الإدارات الرسمية فلا هو مؤسسة أعلاف ، ولا هو مؤسسة مطاحن , إنه مؤسسة توفر الأمان والعدالة إذ لا طعم لرغيف خبز في بطن جائع إذا كان مظلوماً مهيض الجناح مكسور الخاطر.
وأمام هذه الثوابت وكي نتابع تطوير ومسيرة هذه العدالة، لابد من نظرة شمولية وسريعة دون إيجاز ممسوخ ولا استفاضة مملة بتحسين وسائل الوصول إلى العدالة. وذلك بتعديل قانَوني أصول المحاكمات الجزئية والمدنية بدءاً من تبليغات أوراق الدعوى وانتهاء بمخاصمة القضاة ، فعلى سبيل المثال : من غير الجائز أن تكون فترة تبليغ أوراق الدعوى بمعدل كل ثلاثين كيلو متراً .. يوماً واحداً .. وكأن البريد ينقل على ظهر الجمل ، في زمن أصبحت الكرة الأرضية قرية صغيرة مع انتشار وسائل الاتصال المتطورة ، فلم يعد من المقبول أن يبقى صاحب الدعوى لسنوات طوال في أروقةِ المحاكم حتى أصبح يقال إن عمر الإنسان لا يكفي إلا لدعوى واحدة ، ويقال أيضاً إن أوراق الدعوى هي الكفن ، وأن المحكمة هي المقبرة ... والأقوال كثيرة ..ولا تخلو من الطرافة والمبالغة وأحياناً من التجني ، ولكن وعلى الرغم من كل ما يُقال ، فإن الأمر الثابت والأكيد : إن العدل البطيء هو ظلم سريع .
وأضاف الأستاذ اليوسفي أنه إذا كنا حريصين على تطبيق العدالة، فليكن توزيعها بين المواطنين مجاناً. فالعدالة للمواطن كالصحة له ، فغالباً ما تقفُ الرسوم والمصاريف وأتعابُ المحامي حائلاً بين صاحب الحق وحقه ، الأمر الذي يدعونا إلى التوسع في مؤسسة المعونة القضائية وتبسيط إجراءاتها، ونُخرج هذه المؤسسة من شروطها التعجيزية ، وهذا يقتضي أن نُعزز أيضاً أوضاع السادة القضاة ليس بزيادة رواتبهم وتعويضاتهم فقط، إنما بتعزيز مكانتهم اجتماعياً ومعنوياً ، وبالتالي نبعدهم عن مواطن الشبهة فلا صداقات مريبة ولا ديون مشبوهة ولا هدايا مفضوحة ..الخ .
وتأسيساً على ما ذُكر، يجب أن يكون العتاب بحجمِ الثواب "والعقاب غير الحساب "، حتى ينأى القاضي بنفسه عن مواقع الغيبة، تماشيًا مع القول المأثور "رحم الله امرأً حجب الغيبة عن نفسه", يرافقه تعزيزٌ قوي لحصانةِ القاضي حتى في مواجهة السيد وزير العدل، فلا سلطان على القاضي إلا رقابة الله والضمير.
فإذا ما فرغنا من القضاة جئنا إلى تحديث القوانين الذي سمعنا بها منذ فترة طويلة ، وفي طليعة تلك القوانين قانون العقوبات ، إذ من المفارقات المؤلمة أن تكون عقوبة قطع سُلامية الإصبع "مجرد سُلامية " هي الأشغال الشاقة سبع سنوات وعقوبة سارق سيارة شاحنة يسحق سيارة أخرى بكامل ركابها ويودي بأرواحهم ... الحبس ستة أشهر و قابلة للتخفيض .
وعل ما يثير الدهشة إن قانون العقوبات يحوي فصلاً كاملاً عن المبارزة المادة /422/ وما بعدها، والمعروف إن المبارزة دخلت التاريخ وأصبحت في ذمة الماضي منذ أكثر من قرن.
وأوضح الأستاذ اليوسفي أن المفارقات أكثر من إن تحصى ، ويبقى هناك ماهو أهم من كل ماذكرته، الا وهو تطبيق القانون والعمل على تعميقِ فهم جوهر القانون , فالنص الجيد وحده لا يكفي إن لم يرافقه تطبيق جيد والأمثلة كثيرة ابتداءً من قانون منع التدخين في المرافق العامة ومروراً بهرولة شرطي السير يطارد سائق سيارة متواضعة تضع لصيقة دخانية اللون على الزجاج الأمامي ليكسر بها حدة وهج الشمس ويتعامى هذا الشرطي و رؤسائه وعن سيارات أخرى تسير في الطرقات وتجوب المدن بلوحات مشوهة. وانتهاءً بموظف البلدية الذي يهرع إلى هدم نافذة صغيرة تافهة، ويتعامى هذا الموظف نفسه عن رؤية بناء مؤلف من عدة طوابق دون ترخيص. وعلى هذا نقيس ، فتطبيق القانون شيء واستفزاز المواطن شيء أخر ، فلا شيء يدعو المواطن إلى التململ من تطبيق القانون، سوى أن يراه مطبقاً في جانب ومغفلاً في جانب أخر، لأن في هذا الإغفال أخذ من كفة إلى كفة أخرى، بينما مقتضى العدالة أن تكون متساوية في كلتا الكفتين.
كنت أقول ولا أزال أنّ تعميق مفهوم القانون وتعميق احترامه يخدم الحاكم والمحكوم , بمعنى يخدم الدولة والمواطن على حد سوء ، لأن هذا العمق يبلور لغة الحوار ويجب أن نقترب أكثر فأكثر إلى حوار مفرداته القانون، لأن في ذلك عين الحضارة.
وغاية الحضارة أن يصبح القانون ضميراً للإنسان والضمير في التعريف السلوكي للإنسان هو الأخلاق ، وليس أدل من هذه الحقيقة سوى ما قاله القائد الخالد حافظ الأسد وعلى سبيل المثال بصدد تطبيق قانون السير وما يتفرغ عنه :
عندما نجد سيارة أو مواطن يخالف النظام العام في البلد يخرق قانون السير، يجب أن ننبهه إن كان يجهل أنه يخالف، وننظر إليه بازدراء إن كان يعلم أنه يخالف .
أليس في التنيبه وفي الازدراء نمط من السلوك الإنساني ، وبالتالي أليس هو شكل من إشكال الأخلاق لأنه من الثابت في علم الاجتماع أن القانون لا يصنع الأخلاق بل يسجيها ويصونها .
ثم نسأل أنفسنا ما فائدة النص والتطبيق إن لم يرافقه تنفيذ ، فمن حسن سلامة الجسم القضائي وسعته المبادرة فوراً إلى تنفيذ الإحكام القضائية المبرمة ، لاسيما الصادرة على الإدارات والمؤسسات العامة ، لان القرار القضائي المكتسبِ الدرجة القطعية يمثل " عنوان الحقيقة " ولا ننسى أن الإحكام القضائية ليست قرارات إدارية فهي تصدر باسم الشعب العربي في سوريا ، والقاضي هو الموظف الوحيد الذي ينطق باسم الشعب ، ولا تملك أية سلطة أن تناقش مضمون القرار القضائي الذي اكتسب صفة الإبرام ، لا لشيء إلا انه صدر باسم الشعب ، وبالتالي لا معنى لهذا الكم المتراكم من القرارات القضائية التي ترسف في دروج مكاتب بعض المسؤولين .
و من القضايا الملحة إعادة النظر وبشكل سريع إلى موضوع التوقيف الاحتياطي، الذي يمارسه قضاة التحقيق والذي افرز على هامش عملهم فئة من الوسطاء و من محامين وغير المحامين، ولم يعد المواطن يبحث عن المحامي الكفوء مع كل أسف، بل راح يبحث عن ضالته وبما يسمى بالمحامي المفتاح بأية وسيلة ، وهنا لابد من التذكير أن الثابت في علم الحقوق الجزائية أن التوقيف الاحتياطي هو تدبير احترازي تقتضيه ظروف التحقيق كي يبقى المشتبه به بعيدا عن ساحة الجريمة بعيدا عن إمكانية طمس الأدلة أو اصطناعها ، ولم يكن عقوبة أبدا مهما تعززت قناعة قاضي التحقيق بالإدانة , لأن العقوبة يفرضها قاضي الحكم وليس قاضي التحقيق ، وبالتالي يبقى القول كل مواطن بريء إلى إن تثبت إدانته بحكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية قولاً سليماً بلا نزاع ، الأمر الذي يتوجب عدم التوسع والاسترخاء في التوقيف ، وبهذا الصدد و بتداعي الأفكار أقول لا يضيرنا في شيء أن نأخذ عن القضاء " الانكلو سكسوني " مبدأ تحديد فترة التوقيف مسبقاً وبذلك نقطع دابر كل تقولات مغرضة ووساطات مشبوهة .
وتابع اليوسفي أنه استطراداً لا يمكن إغفال ماتشهده البلاد من مواكبة لمقتضيات العصر في تطوير وتحديث القوانين ، فكان لصدور بعض التعديلات لقوانين أصول المحاكمات المدنية وقانون الأحوال الشخصية، ولا سيما التي تتعلق بالزواج و سَنه والحضانة وغيرها، أيضاً من القوانين التي تتعلق بالجرائم المعلوماتية و المراسيم التشريعية في بواكير هذه التعديلات بما ينسجم مع التبدلات الاجتماعية والاقتصادية من الأثر الطيب في نفس المواطن وإرهاصاً طيباً في تطوير وتنوير القانون .
إذاً، يعدُ القانون أحدَ أهم أدوات الحكومات لتنظيمِ المجتمع وتحقيق العدالة والمساواة بين أفراده. ومع ذلك، فإن هذا النظام القانوني قد يعاني من جمودٍ في بعض الأحيان، حيث يصبحُ من الصعبِ على القوانين التكيف مع التحدياتِ الجديدة والمتغيرات في المجتمع.