تخوض الأسواق الشعبية الجنوبية حرباً مع الأسواق التجارية الحديثة التي لم تستطع رغم غزوها المدن و القرى المجاورة لها من اطفاء رونق السوق الشعبي التراثي الذي اعتاد عليه الجنوبيون منذ عشرات السنين فبات تراثاً يتوارثه الأبناء عن أسلافهم.
درجت الأسواق الشعبية قديماً في مختلف مناطق الجنوب التي تقاسمت فيما بينها أيام الأسبوع لعرض منتجات ابنائها و بضائعهم التجارية بأسعار زهيدة لانعاش الحركة الاقتصادية و التبادل التجاري "المناطقي" فيما بينهم، فنهار الثلاثاء كان مخصصًا لسوق الخان في حاصبيا، وسوق الأربعاء في الطيبة، والخميس في الخيام، والجمعة في أنصار والعديسة، والسبت في كفركلا والأحد في قانا بينما ارتبط نهار الاثنين بسوق النبطية.
يروي لنا الحاج ابو علي الذي شارف على الستين من عمره عن دأبه في ارتياد سوق الاثنين منذ اكثر من عشرين عامًا ، هو صاحب محل تجاري في احدى القرى المجاورة لمدينة النبطية يبيع الأدوات المنزلية، في حديثه فواصل تنهيد تحكي حسرته على "أيام العز" التي مرت على سوق الاثنين الذي كان يعج منذ الصباح الباكر بالباعة والمتسوقين الذين كانوا يتسابقون لافتراش جوانب الطرقات في مدينة النبطية لاقامة "البسطات" حيث يعرضون بضائعهم، فالموظفون كانوا يتعمدون نهار الاثنين التوجه باكراً الى مؤسساتهم كي لا يتأخروا عن دوامهم بسبب زحمة السوق و الطرقات المؤدية الى النبطية.
يحكي لنا ابو علي عن تبدل الأحوال منذ ازمة كورونا حيث اجبرت البلدية الباعة على اقفال سوق الاثنين نهائياً بسبب الجائحة، وكيف تردت الاوضاع بعدها بسبب الازمة الاقتصادية حيث تقلصت اعداد الناس التي اعتادت ارتياد السوق و بات المتسوقين يتمتعون بالنظر الى البضائع اكثر من شرائها بسبب الغلاء…
ورغم كل ذلك لا يزال وغيره من التجار يصرون على المشاركة في عرض بضائعهم في الاماكن التي اعتادوا افتراش "بسطاتهم" عليها، فالسوق تراث يجب ان لا يندثر رغم الازمات فلا بد من ايجاد فرص يوفر فيها المواطن المنهك من الغلاء ما يستطيع فيقصد السوق طمعاً في ذلك.
اما عن السيدات اللواتي اعتدن ارتياد سوق الاثنين، فحدثتنا السيدة سامية، المرأة الخمسينية وهي ربة منزل توارثت عادة التسوق نهار الاثنين من السوق الشعبي عن والدتها التي كانت تواضب على ذلك، فتشير الى انها تجمع احتياجات الاسبوع العائلية من طعام و ملابس و تموين فتقوم بشرائها من سوق الاثنين التراثي حيث تجد كل ما تحتاجه "من البابوج الى الطربوش" و بأسعار أرخص من المحال، وعما اذا كانت لا تزال تلاحظ فرقاً في الاسعار رغم الغلاء تقول انها لو وفرت القليل من كل سلعة فهي في نهاية المطاف توفر مبلغًا يسند خابية النفقات التي تنهك ارباب الأسر…
وفي تجوالنا بين الباعة الذين تعلو اصواتهم بشتى انواع الدعاية لبضائعهم و الاسعار، لفتنا كثرة البسطات التي تعرض الثياب و الاحذية المستعملة او ما يعرف بال "بالية" كما اعتاد اللبنانيون تسميتها وعند سؤال احدى السيدات التي كانت تهمّ بشراء كمية لا يستهان بها من تلك البضائع عن سبب تفضيل شرائها عن تلك الجديدة، اشارت الى ان سعر البضائع الجديدة بات مرتفعًا و لا يتناسب مع دخل زوجها الذي لا يتجاوز 70$امريكيًا و يلاحظ الباعة كثرة المتسوقين من جنسيات مختلفة كالسوريين و الفلسطينيين الذين يقطنون في النبطية و الجوار و باتوا ينافسون "الزبون" اللبناني، حيث يحظى هؤلاء بدعم من المنظمات العالمية، وعم يضفون حركة على السوق و ينعشونه.
ولا يسلم المتسوقين نهار الاثنين في النبطية من رائحة اللحم المشوي التي تفوح من سوق اللحم المحاذي للسوق الشعبي رغم انه شهد تراجعًا في الفترة الاخيرة واقفالًا لبعض الملاحم فيه الا انه يظل مقصدًا للمتسوقين عندما يحين وقت"الغداء" و من لم يستطع الى تناول اللحم سبيلًا يلجأ الى محال الفلافل الشهيرة المنتشرة في السوق و التي تجذب المارين برائحتها الزكية.
أخيرًا تبقى الأسواق الشعبية المتنفس الوحيد للمواطنين الذين يرزحون تحت وطأة الغلاء المعيشي و الازمة الخانقة التي انهكتهم و جعلتهم يبحثون عن البدائل التي توفر عليهم و لو القليل، ويبقى السوق تراثاً شعبيًا يواجه رياح الأزمات و الجوائح باصرار الجميع على بقائه ملجأً لهم في الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد.
.jpg)
.jpg)