لم تُقارب الدراما السوريّة البيئة المُجتمعيّة في عموم مناطق شرق سورية ( الجزيرة ووادي الفرات ) كما هي عليه ، حتى على ندرتها ، عملان فقط ناقشا مشاكل مجتمعية عفا عليها الزمن وكانا مسلسلي ( الحيار ، والوسيط ) فترة ثمانينات القرن الماضي هذا ماتحفظه ذاكرة أهالي الدير ، و مسلسل " الغريب والنهر " الذي تناول محافظة الرقة وعُرض في العام 1996 بقالب كوميدي ، وتحدث عن قرية بريف الرقة يقصدها معلم مدرسة للتعليم فيها ، اختصر العمل نظرة المركز المُتحضر المدني للأطراف النائية التي تغرق في الجهل وإنْ طرح مشاكل مُجتمعيّة ، غير أن ذلك غيب حقيقة واقعها ،.تتشابه تلك المناطق بعاداتها وتقاليدها ، وأيضاً بإرث حضاري وشراكة في بناء الدولة السوريّة لم تحضر في أعمال دراميّة ، كحال غياب ثوراتها الشعبيّة ضد المستعمر عن الدراما أو مايستجد من مشاكل فيها.
* تنميط فج :
تنميط أبناء المنطقة الشرقية في الدراما السورية ليس جديداً، وليس مهيناً لأبناء المنطقة بقدر ما هو مهين لصنّاع الدراما ، حسب مايرى الصحفي إبن دير الزور " فراس القاضي " في حديثه لوكالة أنباء " آسيا : " إذ من (الهبل) بمكان ألا يخطر ببال كاتب أو مخرج أو منتج أن في دير الزور والحسكة – والقامشلي ضمناً – والرقة ، أطباء ومهندسون ومحامون وسياسيون وموسيقيون وشعراء وكتّاب وصحفيون ورجال أعمال وغير ذلك ، وأن ينحصر ذكرهم كحراس للأبنية، أو عناصر أمن جنائي أو شرطة فاسدين حصراً ، أو مستخدمين (عالبركة) في الدوائر الحكومية ، هذا التنميط مرجعه أمران، وللأمانة لا يُلام بها فقط صُنّاع الدراما ، بل الإعلام السوري كله ، فالأمر الأول هو أنه وبالفعل أبناء المحافظات السورية الأخرى لا يعرفون عنا شيئاً، وخاصة الذين لم يزوروا المنطقة الشرقية أبداً، واعتمدوا في التعرف إليها على الإعلام السوري الذي لخّص دير الزور بالجسر المعلق والرقة بالدبكة الريفية، والحسكة والقامشلي بالثروة الحيوانية ومنتجاتها.
وأضاف : " حين أقول الإعلام السوري فإن أول من أقصد كل الكوادر التي مرت على المراكز الإذاعية والتلفزيونية في محافظات المنطقة الشرقية، وتحديداً دير الزور قبل الحرب، هؤلاء الذين استسهلوا عرض الجسر المعلق والدبكة والسمن العربي والجبن والخراف، ومن ثم إدارات التلفزيون السوري المتعاقبة التي لم يلفت نظرها هذا التغييب للحالة المدنيّة الأصيلة والمتطورة الموجودة في عموم المنطقة الشرقية بمحافظاتها الثلاث ، والأمر الثاني باعتقادي، هو قلة الممثلين السوريين المنحدرين من تلك المناطق، والتي لها أسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن"
ما سبق ، يدفع كل من يتعرف على أبناء إحدى مدن المنطقة الشرقية لدهشة لا يستطيعون إخفاءها - والحديث للإعلامي " القاضي" - : " ليبدأ طرح الأسئلة التي اعتدنا عليها كأبناء لتلك المناطق، والتي تبدأ بالسؤال حول شكل مدننا ولباسنا وطعامنا وأشكالنا، ولا تنتهي بالاعتراف الخجول بتنميط أقسى من تنميط الدراما، أو نستطيع القول تنميط أدى إلى دراما منمّطة والعكس صحيح أيضاً: (ما توقعتك من المنطقة الشرقية) !!
فيما يرى المخرج المسرحي " ضرام سفّان " إلى أنه وعلى مدى سنوات طويلة لم تستطع الدراما السورية أن تُقدّم شخصية إبن الشرق السوري ، مثال ذلك طرحها لشخصية إبن دير الزور ، إذ لم تكن كما يجب ، وعلى الرغم من تصدي بعض كتاب " السيناريو" من أبناء المحافظة لصياغة نصوص تعتمد على مشاكل المنطقةولهجتها ، إلا أنها كانت نصوصاً فقيرة فنياً وفكرياً، على الرغم من قلتها كمسلسلي ( الوسيط ، والحيار ) اللذين عُرضا في الثمانينات ، وبالرغم من وجود مقومات النجاح في منطقة وادي الفرات والجزيرة ، حيث الجغرافية الساحرة والمنوعة ، أو حتى على مستوى التركيبة الفيزيولوجية المُعقدة والمُركبة والتي تصلح لبناء دراما ناجحة ومميزة ، حتى على مستوى إيقاعي الحياة واللهجة التي تحمل بين طياتها عوامل الفشل والنجاح في آن ، فهي ناجحة إن وجِد الكاتب الذي يجيد صياغتها ولايعتمد على غرائبيتها واستخدام بعض المفردات التي لاتخدم الفكرة عموماً لايوجد أعمال درامية ناجحة تحدثت عن قصص وحكايا أهل الفرات والجزيرة.
تقديم شخصية أبناء هاتين المنطقتين يفتقد للواقعية والمصداقية ، فهي تُصوره ذاك البدوي الجاهل ، والأمي الذي تجذبه أضواء العاصمة ، فيتوه في شوارعها الواسعة ، وتبتلعه أضواؤها ، شخصية سلبية غير معالجة بشكل جدي ، وتعود الأسباب لجهل الكُتاب والمخرجين ، خذ مثلاً شخصية ( الغزال ) في مسلسل " بروكار " ، إذ جاءت شخصية غير مركبة ومشغولة باستسهال ، بعيداً عن الجوانية التي هي الأساس في الأدب والدراما ، فلا الممثل أجاد اللهجة ، ولا الكاتب استطاع الدخول لأعماق الشخصية .. وتاريخها .. وجغرافيتها ، ولا حتى المخرج استطاع توظيفها ..
أما في الأعمال الكوميدية فق اعتمدت على تناول شخصية أبناء هذه البيئة المُجتمعيّة كمصدر للفكاهة والسخرية منه ( لوحات بقعة ضوء) وكأنها تنهج طريق الدراما المصرية حين تعاملت وتناولت شخصية "الصعيدي " .
* نظرة الآخر :
لم تحظ بيئة الجزيرة والفرات كأحد مكونات سورية الجغرافيا والمجتمعية بشيءٍ يعكس واقعها ضمن الأعمال الدرامية السورية ، بل بقت في دائرة نظرة أبناء المحافظات الأخرى ، لاسيما العاصمة دمشق كما لو أنها صحراء تخلو من معالم المدنيّة ، فيما أهلها لايزالون يعيشون في الخيام ، يقول الشاعر والصحفي " خالد جمعة " : " لا تزال أعمال البيئة الشاميّة هي الغالبة في الدراما ، تبعتها الحلبية نوعاً مالا ، فيما أسهم مسلسلي " ضيعة ضايعة " ، و " الخربة" وإن وفق قالبٍ كوميدي ، بالتعريف ببيئة الساحل السوري.، والسويداء في الجنوب ، على الأقل لجهة اللهجة ، أما لدينا فنُقدم باللهجة البدوية ، وذاك جهلٌ فاضح مابينها وبين لهجة الفرات والجزيرة.
بل إنّ أي إدخال لشخصية ما من منطقتنا في عمل درامي ، لا يعدو عن كونه تطعيماً لا يُقدم ولا يؤخر ، بل يزيد الطين بِلة ، بل إنّك تجد ماقُدمّ عنّا كما في السلسلة الكوميدية ( بقعة ضوء ) زاد من عكس نظرة سلبيّة لواقعنا ، موسومة بالتخلف والبداوة .
هنا يستذكر " جمعة " في حديثه ل" آسيا " ما ورد في حوارية جاءت على لسان الفنان " دريد لحام " في رده على الفنانة " صباح الجزائري " ضمن مسرحيّة " غربة " المشهورة ، والتي كتبها الراحل " الماغوط " ،وكانت ( إي أهل دير الزور مابيرضو فيكي ) ، فهل كانت خروجاً عن النص ؟ ، أم كانت في النص نفسه ؟ ، وكلتاهما تعكسان النظرة آنفة الذكر ، بل وحتى اللون الغنائي للمنطقة ، والمقارب للغناء العراقي، لم يظهر ، أو يروج له كما ينبغي ، وربما ما عرفه عنه أبناء المحافظات السورية الأخرى كان أكثر عبر الأغاني التي أداها الفنان الفراتي المعروف " ذياب مشهور " ، وتلاحظ خلال الأعوام الأخيرة مثلاً أعمالاً طرحت دير الزور عبر لهجتها ، فشوهتها ، كما في أداء الفنانة " صفاء سلطان " بمسلسل " خريف العشاق " الذي عُرض في الموسم الرمضاني الماضي ، أو شخصية " غزال " في دراما " بروكار " ، وتوحي أنّ الطرح جاء وكأنه رفع عتب عن غياب بيئة المنطقة عن درامانا .
وفي ختام حديثه أشار " جمعة " لتلك التصورات المُسبقة عن منطقتي الجزيرة والفرات عند الآخر السوري ما رواه طالب كان يدرس في جامعة دمشق ، استأجر المذكور غرفةً لدى سيدة من نازحي الجولان في منطقة مزة بساتين ، حينها سألته : ( لساتكم ساكنين بخيام شعر ؟ ) ، فأجابها : (نعم ياخالة ، بس عملناها طوابق فوق بعضها ) !!