طال الحصار النفسي والمادي على الشعب السوري داخل بلاده، حتى بات ينقشُ قشّة نجاته بيده ولو كانت غارقة في بحر الظلام والظلم، لا ينتظر أن تأتيه عائمة على سطح بحر أو بحيرة أو ساقية، بل يصنعها بألف حيلةٍ وحيلة حتى دون التفكير أو حسبان النتائج.
مدينة الأحلام كما يظنها الشباب السوري العالق داخل بلاده والذي يقضي أياماً وشهوراً في رحلة تأمينه لثمن فيزا وحجز تذكرة طائرة إلى دبي ليصل وينفض غبار كل الخراب الذي يعيث بداخله، ويبدأ ببناء امبراطوريته التي طالما حَلِمَ بها، هذا الشاب المُفعم بالحيوية والحياة يبدو وكأنه خُلِقَ من جديد، ينصدم بكل مايراه حوله، كهرباء، شوارع ومنازل مضيئة كل الوقت، سيارات فارهة، كل شيء متوفر، يقضي يومان أو ثلاثة قبل أن تبدأ الصدمات السلبية ويبدأ حلم الإمبراطورية يتبدد إلى إقامة عمل وسرير في سكن مشترك.
ويقول أحمد صاحب شهادة الهندسة في سورية وشوفير صينية في أحد مطاعم دبي "كان كل طموحي أن أتخرج من الجامعة وأسافر لأعمل في مجال دراستي، ظناً منّي أن هذه الشهادة ستحملني نحو الغيم، ولكن الواقع كان مختلف تماماً، حيث قضيت ثلاثة أشهر بين الشوارع وشفقة الناس إلى أن حصلت على عمل في المطعم الذي لو طلب مني الآن أن أستخدم شهادتي في مسح الطاولات لما رفضتُ".
ويتابع أحمد "لا أُخفي على أحد أن وضعي الآن وبالرغم من ضغط العمل وفترات الوقوف الطويلة هو أرحم بكثير مما كنت عليه في سورية، بالتأكيد لا أعمل هنا بشهادتي ولكني بنهاية المطاف أمتلك عمل يؤمن لي سكن وطعام وراتب ولو كان قليلاً ولكنه يكفيني ويساعدني في مساندة أهلي بالمصروف أفضل من أن أكون عالة عليهم وعلى نفسي".
وتروي رهف الشابة السورية خريجة كليتي الفنون الجميلة واللغة الإنكليزية معاناتها والتي رفعت سقف المعاناة وتحولت إلى بائعة جوالة في المساحات الشاسعة لهذه البلاد وشمسها الحارقة وتقول "جئت إلى الإمارات لأبدأ بعمل بشكل فوري بحسب ما تم إقناعي، ولكني عندما وصلت إلى المطار تناولت الكف الأول واكتشفت أنني ضحية مزاح أو نصب أحدهم، الذي اختفى فجأة واختفت معه كل الحلول، حتى حل العودة إلى سورية بشكل فوري وذلك لأنني لم أكن أملك ثمن تذكرة العودة".
وتُكمِل رهف رسم معاناتها مستفيدةً من دراستها بالرسم وإمكانية تحويل المعاناة إلى فن، إلّا أنّها قلبت الصورة وحولت الفن إلى معاناة وتقول "بدأت بالبحث عن عمل لتجنب العودة إلى ذات الدوامة التي كنت فيها سابقاً ولكن ببلدٍ جديد.. دبي على السوشال ميديا أجمل بكثير مما هي عليه بالواقع لأشخاص مثلنا طموحهم أن يخرجوا من حفرةٍ كلما بقينا فيها أكثر كلما صارت أكثر عمقاً".
وتختم رهف كلامها "كنت أحلم أن أقوم بعدِّ الحضور لأحد معارضي الفنيّة واستقبل إطراء النُقاد ومدحهم لأعمالي، إلا أنني اليوم أعد خطواتي التي أمشيها يومياً لعرض المنتجات التي أروّج لها وأعد الأبواب التي تُغلق بوجهي ولكن لا مشكلة بهذه الأبواب طالما أن باب دمشق باتَ مغلقاً في قلبي ووجهي".
وعلى مبدأ أنّ الدنيا حظوظ، فالغربة والسفر كذلك الأمر حيث يُقدِّم أمير نسخة مغايرة تماماً عمّا عاشه أبناء بلده، ويتحدثُ والفرح يخرج من حروفه ناسفاً معاناة من سبقه ومن لحِقَ به واعتبر أمير أن هذه البلاد تقوم على عاملين أساسيين وهما المعارف والعلاقات من جهة والحظ من جهة أخرى.
ويقول أمير "عندما أشاهد وأسمع معاناة الشباب هنا أستغرب، واستغرابي ليس لأنني أعيش في كوكب آخر على العكس من الممكن أن أكون معهم بنفس البناء ولكن ما مرّوا به لم أمرَّ به يوماً، حيث أنني حصلت على وظيفة في أحد التلفزيونات العربية العريقة وبظروف حياة وعمل مختلفة كلياً عما يمر به معظم الشباب".
ويتابع أمير "أنا خريج صحافة وإعلام ولكن ليس هذا السبب، فهناك الكثير من أصدقائي الخريجين وبنفس مجالي يبحثون عن فرصةِ عمل حتى ولو كانت في مطعم أو مقهى"، ويوّضح أمير "المهم أن من يأتي إلى هنا لا يعتبر نفسه بأنّه سيُخرج الزير من البير كما يقول المثل، بالإضافة أنَّ الإمارات فيها الكثير من الكفاءات من أبناء البلد نفسه ومن الوافدين، لذلك يجب أن نُدرك لماذا نحن قادمين وما سنواجه هنا".
ومن جهةٍ أخرى ليال الحاصلة على ماجستير في إدارة الأعمال وكانت على بُعدِ خطوةٍ من دخولها في دراسة الدكتوراه قبل أن تقرر السفر بحثاً عن أمانٍ وراحةٍ كانت تظن أنّها ستلقاهم مجرد وصولها إلى دبي بحسب تعبيرها، استنكرت عدم اتخاذ الحكومة السورية أي إجراء لإيقاف هجرة الشباب والكفاءات بتأمين فرص عمل مناسبة لهم.
وقالت ليال "متل مابيقول المثل شو اللي جبرك عالمر غير الأمر منو" وتابعت "لدينا في سورية كفاءات عالية جداً، وعقول شابة قادرة أن تبني بلد بأكملها بكل انتماء وحب وشغف، لماذا يتم التعامل معنا على أننا مسببات لقرارات رفع سعر جواز السفر ولارتفاع سعر تذكرة الطيران وبأننا حوالة مالية ومئة دولار سيتم تصريفنا عند الدخول إلى البلاد؟ لماذا يتم التعامل مع عقولنا بهذه السجاذة؟".
وتابعت ليال (بحرقة قلب) بحسب تعبيرها "نحن نستحق أن تحتوينا بلادنا التي هي أحق بنا كما احتويناها أيام الحرب لأننا الأحق باحتوائها، لماذا نسمح للجميع بالسفر، امنعوا الجميع من السفر ولكن ليس برفع سعر جواز السفر، امنعونا بتأمين فرص عمل ومعيشة حقيقية ولا أتمنى أن يخرج أحد ليقول لا نستطيع، بل هم يقدمون الحد الأدنى مما يستطيعون تقديمه، ولكن على مايبدو وللأسف أن الأرض ليس لمن يعمل بها".
وعبّر الصيدلي حسام عن ندمه الشديد للسفر ليس لأنَّ وضعه في سورية كان أفضل بل لأنه أتى إلى الإمارات ليعمل وقال "أعمل في سورية بمجال الصيدلة منذ ١٥ عام ومع الارتفاع الرهيب لأسعار الأدوية وانخفاض نسبة الأرباح بشكل كبير لأننا نحتاج أحياناً أن نتصرف بواقعية وبعيداً عن الجشع، قررت إغلاق صيدليتي والقدوم إلى الإمارات".
وأضاف حسام "كارثة حقيقية ما حصل معي، تركت كل شيء لأنني لا أملك شيء وجئت إلى هنا لأكتشف أن الأمر ليس بهذه السهولة بل يحتاج إلى شهادات وفحص ودراسة ودفع مبالغ مالية كبيرة مقارنةً بما تساويه على الليرة السورية وعندما أنجح يتم السماح لي بالعمل، وبالرغم من كل شيء أجريت الاختبارات ونجحت لأنصدم مرة أخرى بواقع مزري وهو قلة الرواتب لأنني سوري فقط، سوري يعني محروق عأي شي وبيرضى بأي شي".
وأوضح حسام "هذه الصورة التي تشكلت عن السوري هي مغايرة تماماً لما كانت عليه قبل عشرة سنوات، ولكن لا ألوم السوريين كمواطنين ولكن ألوم الحكومة التي أوصلتنا جميعاً إلى هنا، لنرضى بأبخس الأجور وذلك خوفاً من عودتنا إلى بلادنا التي أساساً هي الأحق بنا، ولكن من نلوم لم يعد لدينا طاقة حتى على اللوم للأسف، نريد أن نعيش فقط".
وعن سؤالنا لهم إذا كانوا ينصحون الشباب بالقدوم إلى الإمارات أم لا، حيث أجمع الكل بأنّه من الظلم أن ينصحوا الشباب بعدم القدوم، فهذه بلد الحظوظ قبل أن تكون بلد الأحلام، ولكن على من يريد أن يأتي أن يصقل لغته وأن يتوقع أفضل الأمور وأسوأها، ولا يقول لنفسه "بسافر ولو بدي نام بالحديقة" فالواقع أمر بكثير مما يتخيّل وأجمل مما يتوقع "هو وحظه".