أصدرت مؤسسة "راند" الأميركية تقريرا تحت عنوان "الاتجاهات الجيوسياسية ومستقبل الحرب"، حول مستقبل الحروب في بيئة عالمية متغيرة وتأثيراتها على القوات الجوية الأميركية.
وركز التقرير على ستة اتجاهات جيوسياسية رئيسية تتمّثل بطرح أسئلة من وكيف ومتى ولماذا سوف تحارب الولايات المتحدة في الصراع القادم: "الاستقطاب الأميركي وانكماش نفقاتها، وصعود الصين، وإعادة تقييم آسيا، وظهور روسيا الساعية للإنتقام، والاضطراب في أوروبا، والاضطراب في العالم الإسلامي " لتحديد دوافع الصراع بين الحاضر وعام .2030
وتشير هذه الاتجاهات الستة معا إلى ثلاث نتائج شاملة. أولا، إن العديد من الافتراضات الجيوسياسية الأساسية في استراتيجية الدفاع الوطني للولايات المتحدة لعام 2018 - حول مركزية منافسة القوى العظمى واحتمال وقوع عدوان في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا والشرق الأوسط - صحيحة. ثانيا، على الرغم من أن خصوم الولايات المتحدة من المرجح أن يظلوا مستقّرين نسبيا على مدار العقد المقبل فمن المرجح أن يتغير حلفاء الولايات المتحدة، خاصة وأن أوروبا أصبحت مشغولة بشكل متزايد بمشاكلها الخاصة، ومع تفاعل آسيا مع صعود الصين.
ثالثا، وهو الأكثر أهمية، سيواجه الاستراتيجيون الاميركيون سلسلة متعمقة من المعضلات الاستراتيجية، من حيث احتمال نشوب صراع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا والشرق الأوسط،تفرض سحب الموارد الاميركية المحدودة في اتجاهات مختلفة.
وبرزت الولايات المتحدة كواحدة من الجهات الفاعلة الرئيسية (الجهة الفاعلة الرئيسية الأولى) على الساحة العالمية أثناء فترة من الوحدة السياسية الراسخة في ما يتصل بأمور السياسة الخارجية، وخاصة حيال الحاجة إلى احتواء الشيوعية ودعم النزعة الدولية الليبرالية، التي اقترنت بالقوة العسكرية الاميركية والايمان بالوعود المتعددة الأطراف.
وبحسب التقرير فإن هذا الإجماع تآكل تدريجيا على مدى العقود الماضية؛ واليوم أصبح الأميركيون أكثر استقطابا وغموضا بشأن دور الولايات المتحدة في العالم.
وأشار التقرير إلى إن تراجع الولايات المتحدة عن موقفها العالمي (سواء بسبب الجمود السياسي أو الخيارات السياسية) من الممكن أن يؤثر على كل شيء ابتداء من ميزانياتها الدفاعية وصولا إلى استعدادها لإلزام قواتها في الخارج.
ثانيا؛ وبالتوازي، يتزايد تطور الصين من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، فأنه في المستقبل، وبينما يواجه الرئيس الصيني شي جين بينج ضغوطا داخلية،ومع توسع المحيط الخارجي الاستراتيجي للصين في مختلف أنحاء منطقة الهند والمحيط الهادئ، من المرجح أن تكافح الصين لهذه الأسباب ذاتها. ثالثا؛ مع صعود الصين، تواجه بقية آسيا خيارا استراتيجيا قاسيا: الموازنة مع بكين. والمسارات التي تختارها هذه البلدان ستكون لها بدورها آثار عميقة على هيكل التحالف الأميركي في الهند والمحيط الهادئ.
رابعا؛ على الرغم من أن صعود الصين يهدد بعرقلة الديناميكية في آسيا (وربما على المستوى العالمي) فإن الولايات المتحدة تواجه أيضا عودة عدوها القديم روسيا. بعد عدة عقود من الهدوء في أعقاب الحرب الباردة، أصبحت روسيا أكثر عدوانية، وخاصة في المناطق القريبة من مجالها الجغرافي.
وأخيرا، على الرغم من أن الصين وروسيا تشكلان تهديدا قويا عظيما، ركزت الحروب الاميركية منذ هجمات 11 أيلول 2001 الارهابية على الأقل على ثلاثة تحديات مترابطة نابعة من العالم الاسلامي على وجه التحديد وهي: الارهاب،والدول الضعيفة،والحروب بالوكالة المتنامية. وبالنظر إلى المستقبل في عام 2030، من المرجح أن تستمر هذه التحديات الثلاثة في تشكيل مستقبل الحرب وأن تقود الولايات المتحدة في الوفاء بالتزاماتها.
التقديرات المستقبلية بالنسبة للداخل الأميركي: الجمود وخيبة الأمل والانعزالية
لسوء الحظ،لا يوجد سبب بسيط للافتراض بأن الاستقطاب المتزايد للناخبين في الولايات المتحدة سوف ينتهي في أي وقت قريب. من حيث الهيكل،ورغم المطالب الدائمة بإيجاد حزب ثالث، فإن الحزبين الرئيسَّيين سيواصلان الاحتفاظ بالسلطة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر شغلت الرئاسة من قبل طرف جمهوري أو ديمقراطي وعلى الرغم من أن المستقلين كان أداؤهم أفضل على مستوى الدولة والمستوى المحلي إلا أنهم لا يزالون يشكلون أقلية صغيرة من أصحاب المناصب.
وأوضح التقرير أنه من حيث المضمون،إن الانقسامات الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والعرقية والثقافية التي تدفع نحو الاستقطاب لا تبدو أقرب إلى الحل. ويترتب على هذا الاتجاه تو ُّقعان؛ أولا من المرجح أن يستمر الجمود الحزبي دون وقوع حدث كارثي (مثل هجوم إرهابي آخر على غرار هجمات 11 أيلول) وهذا قد يحّد من قدرة الزعماء السياسيين على الدفع بالمبادرات الجديدة الرئيسية عبر الكونغرس، بما في ذلك ما يتعلق بالسياسة الخارجية والدفاعية. وثانيا، قد تستمر خيبات الأمل الأميركية حيال الانخراط العالمي بالنمو.
وفي استطلاع رأي أجراه معهد "غالوب" ازدادت نسبة الاميركيين الذين عّبروا بـ "قليل جدا" أو "لا" عن إيمانهم بالرئاسة والكونغرس بشكل كبير منذ عام .2002 والواقع أن المؤسسة الحكومية الوحيدة في الولايات المتحدة التي يعّبر معظم الاميركيين عن الثقة بها باستمرار بـ "أوافق" أو "أوافق بشدة" هي المؤسسة العسكرية.
وأوضح التقرير أنه منذ عام 2001 دأبت المؤسسة العسكرية على تسجيل أكثر من 70 في المئة تأييداً في استطلاعات الرأي، أما في ما يتعلق بتراجع الاميركيين عن الليبرالية الدولية فإن الاتجاه يبدو أكثر غموضا إلى حد ما.
ويشير استطلاع "غالوب" الذي يعود إلى مطلع الألفية إلى أن الأميركيين غير راضين عن دورهم في النظام العالمي. وبصورة مماثلة كشفت دراسة استقصائية أجرتها مؤسسة بيو - PEW عام 2016 أ ّن %57 من الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة لا بد أن "تتعامل مع مشاكلها الخاصة وأن تسمح للبلدان الأخرى بالتعامل مع مشاكلها قدر استطاعتها."
التقديرات المستقبلية حول صعود الصين:
بحلول عام 2030 سيكون بوسع الصين أن تصبح على استعداد متزايد لاستخدام القوة. وعلى الصعيد المحلي عمل الرئيس الصيني على ترسيخ سلطته ورفع حدود ولايته الرئاسية، الأمر الذي سمح له بالبقاء في السلطة إلى مالانهاية.
بحسب التقرير يأتي التحول الرسمي في السلطة أيضا مع تغيير في مواقف النخبة. ومن ناحية أخرى لم يعد هناك أي تغيير في السلطة. ورغم أن قياس الرأي العام في الصين لا يزال صعبا فإن المسؤولين الحكوميين الصينيين كثيرا ما تحدثوا عن شي جين بينغ بعبارات مبهجة، وإن كانت مبهمة ووضعوه إلى جانب ماو تسي تونغ.
ويوضح التقرير أن الانبهار بـ "شي" ومركزية سلطته ينطوي على عدة انعكاسات على استعداد الصين لاستخدام القوة. أولاً، أحكم "شي" قبضته على جيش التحرير الشعبي الصيني الذي كان يعتقد ذات مرة أنه أصبح مشتقلا عن الحزب. وربما كان ذلك أكثر إثارة للقلق. ومع ارتفاع التو ّقعات الصينية بشأن أداء شي برزت العقبة التي تحول دون نجاح شي وهي تتلخص بـ: الاقتصاد الصيني آخذ في التباطؤ، وإن كان من الصعب الاعتراف بذلك. وكثيرا ما تستخف الجهات الخارجية بالضغط الاقتصادي على النظام وتثير الصين مطالبها في بحري الصين الشرقي والجنوبي.
وستظل تايوان واحدة من أكثر المواقع المعقولة لصراع مسلّح. ويعتبر المسؤولون الصينيون تايوان هدفهم الجغرافي السياسي الأول. والواقع هو أن "شي" يرى إعادة توحيد الصين بالكامل أمرا أساسيا لتحقيق التجديد الوطني وأن "حل قضية تايوان" يبقى عنصرا رئيسيا في استراتيجية الصين طويلة الأمد. وبالتالي قد ينظر "شي" إلى حل قضية تايوان قبل مغادرة منصبه باعتبارها أمرا محوريا كإرث له. إضافة إلى أن أزمات مضيق تايوان المتكِّررة تبين كيف يمكن لأزمة تايوان أن تؤدي إلى الحرب.
وبوجه عام ربما تكون الصين حريصة على تحدي الولايات المتحدة. وكما كتب عالم السياسة غراهام أليسون: "إن الصينيين صابرون استراتيجيا: فما دامت الاتجاهات تتحّرك لصالحهم، فهم مرتاحون في انتظار المشكلة" لان الصدام السابق لاوانه قد يؤ ّدي إلى عرقلة التنمية الاقتصادية في الصين. لكن إذا كانت الضغوط المحلية أو الطموحات الدولية تفرض خلاف ذلك فقد أثبتت الصين في الماضي أنها سوف تخاطر بالحرب. ومن المرجح أن تكون أكثر تحملا للمخاطر مستقبلا، وخاصة إذا مال توازن القوى المتصور لصالحها.
التقديرات المستقبلية حول آسيا: هل سيكون القرن التاسع عشر قنبلة موقوتة؟
عند التنبؤ بمستقبل آسيا رسم "أوسلين" القياس التالي: "إن النزاعات الاقليمية الحالية في آسيا تشبه الصراعات الاوروبية في القرن التاسع عشر." إن تشبيه أوسلين إن صح يرسم صورة مظلمة لما يمكن أن يحدث في المستقبل. يوجد اختلافات رئيسية بين المناطق (على سبيل المثال، الصراعات البرية في مقابل الصراعات البحرية المركزية) والفترات التاريخية (على سبيل المثال، استقرار وجود الاسلحة النووية.) ومع ذلك هناك ما
يكفي من القياس الذي يشير إلى أن آسيا تواجه فرصا أكبر لنشوب حرب واسعة النطاق بين دولها في المستقبل. أولا؛ رغم نفور آسيا التاريخي من التحالفات الرسمية فإن البلدان الاسيوية تعمل على تطوير شراكات عسكرية
ولعل أفضل مصداق على ذلك هو ما يسمى بالمجموعة الرباعية المؤَّلفة من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند. باعت اليابان سفن الدوريات والطائرات لماليزيا وفيتنام والفلبين، وهي تحاول بيع
وفي نهاية المطاف قد يعني هذا أن آسيا قد تعاني أسوأ ما في العالمين: فبدون ضمانات أمنية محددة قد لا تكون هذه الشراكات صريحة بالقدر الكافي لتجنب سوء التقدير وردع العدوان، لكنها في نفس الوقت لا تزال تشكل رابطة كافية لزيادة احتمالات اندلاع الحروب المحلية في المستقبل.
التقديرات المستقبلية حول أوروبا حيث يتزايد التوتر والانقسام والانزواء
إذا نظرنا إلى عام 2030 فمن المرجح أن تصبح أوروبا أكثر انقساما، وأن تميل بقدر أعظم إلى التطلّع نحو الداخل. ورغم الانخفاض الاخير في عدد المهاجرين فسوف يستمرون في التوجه نحو أوروبا، وسيبقى المهّربون الذين استفادوا من الازمة موجودين لتيسير سفرهم. وعلاوة على ذلك، حتى لو تو ّقفت الهجرة غير القانونية فإن الاتحاد الاوروبي لا يزال بحاجة إلى التصدي لملايين المهاجرين الموجودين بالفعل داخل حدوده بما يضمن استمرار الازمة لسنوات قادمة. إضافة إلى ذلك لا تزال أوروبا عرضة للهجمات الارهابية. ويتوقع الكثير من الدراسات ان الارهاب سوف يزداد على الأرجح خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة مع انهيار ما يس ّمى بـ "خلافة" داعش وعودة المقاتلين إلى أوطانهم في أوروبا والافراج عن الافراد المسجونين حاليا بتهمة الدعم المادي للارهاب بين عامي 2019 و.2023 وما دامت منطقة شنغن موجودة، فستواصل أوروبا مواجهة تحّديات في رصد تحّركات الإرهاب
عبر الحدود. وبما أن صعود سياسات الهوية يرتبط ارتباطا وثيقا بأزمة الهجرة والإرهاب فدعم الاحزاب القومية والشعبوية يمكن أن يستمر وربما ينمو مستغلا فشل الاتحاد الاوروبي في الاستجابة لهذه الازمات. ومن شأن هذه التحّركات أن تدفع المزيد من البلدان إلى مغادرة الاتحاد الاوروبي وخاصة في أعقاب "بريكست" (أي خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.) ورغم أن بريكست لم تحِّرك الدومينو في مختلف أنحاء أوروبا، فإّن بلدانا أخرى قد تحذو حذو بريطانيا. وأخيرا يبدو أن روسيا على استعداد لأن تصبح أكثر عدوانية وبدرجة أقل في السنوات المقبلة. والنتيجة النهائية هي أ ّن أسباب عدم الوضوح داخل أوروبا يبدو أ ّنها ستستمر، وربما تتفاقم على مدى العقد المقبل.