منذ بداية تأسيس المصارف في لبنان كانت البنية الإدارية والوظائف النقدية التي تم انشاؤها، تكرس كل قوانينها وخدماتها لفئة خاصة من المجتمع. فمفهوم تنمية الاقتصاد لا يخدم حكام المصارف ودولتهم العميقة ليُحكموا سيطرتهم على الاقتصاد اللبناني وتُحول هذا القطاع الحيوي من مؤسسة مالية تابعة للدولة إلى جماعة سياسية تتحكم في مقاليد الامور السياسية قبل الاقتصادية وتزاحم مراكز القرار .
ومن خلال قانون السرية المصرفية، تمكنت من إحكام السيطرة والتحرك وفق أجندات بعيدة كل البعد عن المصلحة العامة، وكذلك بحرية غير معهودة بعيداً عن مراقبة الدولة وإدارتها، وإن لم تكن جمعية المصارف بعيدة عن نظام المحاصصة الطائفية، الا انها كانت ولا زالت جزءاً لا يتجزأ من الأساس البنيوي العميق لإعادة إنتاج السلطة الاقتصاديّة التي تديم هذا النظام الطائفي، وإن كانت الكوتا الطائفية قد حددت إلى حد ما، من يتولى رئاسة مصرف لبنان.
ولا ننسى ايضاً الدور الدولي، فالحاكم في لبنان والمصارف عليها أن تحظى بقبول الولايات المتحدة الأمريكية، لأن حساسية هذا المنصب تتمحور حول إمساك واشنطن بخيوط الاقتصاد في المنطقة واستخدامها في الضغط السياسي وفرض العقوبات على من لا يتفق مع سياستها.
لهذا السبب فإن تحرك القضاء اللبناني ضد رياض سلامة هو تحرك يحتاج إلى غطاء سياسي، ولا يمكن حصره بدائرة القضاء اللبناني، لذلك اعتبر البعض انها مناورة من الرئيس ميشال عون لإقلاق الخصوم بهذه الفترة بالتحديد وهي آخر عهده، أو لتسجيل موقف يمكن أن يُحسب للتيار الوطني الحر مستقبلاً، ليستخدم انتخابياً، ولكي تظهر حقيقة القوى السياسية الرافضة لمحاكمة سلامة اولاً. وثانياً هل ان القضاء استثمر الموقف الدولي بعد سلسلة الدعاوى القضائية المقامة ضده في العديد من الدول الأوروبية.
القضاء اللبناني استند إلى عدة أمور، حيث أنّ الطلب جاء بناءً على تحقيق تجريه القاضيه غادة عونو والتي استمعت فيه إلى إفادات عدد من الموظفين الحاليين والسابقين في المصرف المركزي، والمدير العام السابق لوزارة المالية آلان بيفاني، علماً بأنّها تحرّكت بناءً على ما اعتبرته إخباراً ورد في مقال لبيفاني كان ذكر فيه أنّ سلامة خبّأ خسائر بالمليارات مانعاً المعنيين من الاطلاع على أيّ من المستندات.
وقد توافرت لدى عون مستندات تعزز هذه الشبهات، وتفيد بأنّ حاكم المركزي خبّأ خسائر قُدّرت بـ ٥٥ مليار دولار. وذكر عدد ممن استجوبتهم عون أن سلامة كان يطبع عملة ثم يدّعي أنها أرباح حققها المصرف. كذلك تبيّن أنّ الحاكم أعطى في عام ٢٠١٩ قروضاً لثلاثة من كبار المصارف (عوده وسوسيتيه جنرال وبنك البحر المتوسط) بلغت نحو سبعة مليارات دولار.
وقال مدير مديرية القطع والعمليات الخارجية في مصرف لبنان نعمان ندور في إفادته إنّ القروض أُعطيت لعدم امتلاك المصارف المذكورة السيولة، وقد مُنِحت هذه القروض لكي تدفع إلى زبائنها في الخارج، على أن تعيدها وفق سعر الصرف الرسمي (١٥٠٠ ليرة). أي أنّ المصرف المركزي منح، في عزّ الانهيار، ثلاثة مصارف عملات أجنبية لتحوّلها إلى الخارج وان المصرف المركزي والمصارف اجتذبت أموال المودعين عبر الاحتيال والادعاء بأنّ الليرة اللبنانية مستقرة ولا خطر عليها من اي انهيار .
وعلى الرغم من كل المعطيات السابقة تصر جمعية المصارف على أنه في حال توقيف رياض سلامة فإنها ستقفل أبوابها ويغادر رؤساؤها احتجاجاً على قرار القضاء، وكأن القطاع المصرفي يمتلك حصانة ولا يمكن المساس به، بالرغم كمية الفساد المالي والتهرب الضريبي وما تسبب به من انهيار مالي واقتصادي وخسارة اللبنانيين ودائعهم فيه، وهو منبع الأزمات وبالمقابل لن يكون جزءاً من الحل بل يرفض أن يخضع لأي ضابط قانوني .
"الصحافي اللبناني غسان سعود" قال لوكالة انباء آسيا ان التحرك ضد رياض سلامة لا يمكن أن يكون مسرحيّاً لأنه ينطلق من التحرك القضائي الخارجي، وما الحركة اللبنانية سوى امتداد له، حيث لا يمكن أن يكون القضاء الفرنسي والألماني وغيرهما في أوروبا يتحركان وفق الأجندة الانتخابية العونية. هناك تحقيقات أوروبية، تطلب مواكبة من القضاء اللبناني، وهذا ما يمثل الأساس الرئيسيّ في الاستنفار القضائي ضد رياض سلامة اليوم.
والسلطة السياسية مخيرة بين إعلام الدول الاوروبية بعدم رغبتها بالتعاون مع التحقيقات القضائية أو التعاون. الأميركي لا يقول علانية إنه مع رياض سلامة، ولو كان جدياً في حمايته لما سمح للقضاء الأوروبي بالتوسع بهذا الشكل في التحقيق. الأميركي يتصرف دائماً على أساس أنه قادر على استمالة من يخلف كبار الموظفين المقربين منه. لقد ذهب جان قهوجي إلى التقاعد وأتى جوزف عون، ولم يتغير شيء بالنسبة للأميركي. الأميركي ازداد قوة في القضاء بعد تعيين سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى. سيذهب سلامة ويعين غيره، دون أن يتغير شيء بالنسبة للأميركي، لأنه يملك في مجلس الوزراء والنواب موازين قوى تسمح له بأن يكون شريك رئيسي في تسمية من يخلف فلان وعلتان في الادارة اللبنانية.
ونحن نؤكد اليوم ان المحاسبة الاقتصادية لها تأثير ايجابي كبير على المواطنين ومستقبلهم، لكن دونها صعوبات سياسية وقضائية وقانونية. هناك قوانين يجب أن تقر، وتشريعات جديدة وإسقاط السرية المصرفية وغيره الكثير، مما لا يمكن تخيله حاصلاً في المدى المنظور.
المصارف إحدى أبرز أذرع رياض سلامة، يستخدمها للتهديد والترغيب، وهذا ليس بجديد، فهو يستخدم القطاع المصرفي بهذا الشكل منذ أواسط التسعينات. هو يتحكم بمن يحصل على القروض، ومن لا يحصل، سواء القروض الزراعية أو الصناعية أو السياحية أو حتى التجميلية. وهو يتحكم بالتالي بمجمل الاقتصاد اللبناني ومختلف القطاعات، مكوناً حوله شبكة حماية كبيرة جداً.
ومن هنا فإن التحقيقات القضائية المفتوحة اليوم لا تصل إلى صناديق رياض سلامة السوداء، ويستبعد في جميع الأحوال وصولها إلى هناك إلا إذا كان هناك قراراً باسقاط طبقة سياسية واقتصادية واعلامية كاملة، وهذا غير مطروح اليوم. ثمة ملفات محددة تسمح ضمن نطاق القانون بمحاسبة رياض سلامة، لا أحد يطرح حالياً ما هو أكثر من ذلك، علما أن موازين القوى المحلية على جميع المستويات لا تسمح بانقلاب مماثل.