كثُر الحديث مؤخرًا عن قرار إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن تقليص القوات الأمريكية في العراق بحلول نهاية العام الجاري، وذلك على خلفية انسحاب الوحدات العسكرية الأمريكية من أفغانستان، وهو ما يشير إلى إمكانية اتباع نفس الاستراتيجية مع سوريا أيضًا.
وذُكر في تقرير تم نشره في مجلة "فورين بوليسي" قبل أسبوع أنه بعد أن أصبحت مسألة الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي موضع جدل عام في بغداد، في ظل ممارسة سياسيين موالين لإيران ضغطًا على الحكومة المركزية لـ"طرد" الأمريكيين، من المتوقع أن يتم إنهاء المهمة العسكرية للتحالف الأجنبي بقيادة الولايات المتحدة في العراق. وفي ظل فشل السلطات العراقية في مقاومة منتقديها، اعتمد البرلمان العراقي في 2020 قرارًا يقضي بضرورة سحب القوات الأجنبية.
واعتبر بعض المراقبين قرار وقف العمليات العسكرية، المعلن عنه بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لواشنطن، محاولة لتخفيف ضغط القوات الموالية لإيران على بغداد. مع ذلك، لا يمكن اعتبار المبادرة الأمريكية المتعلقة بالملف العراقي انسحابًا كاملًا للقوات، إذ يستبعد المراقبون حدوث تحولات استراتيجية في عدد القوات الأمريكية المنتشرة في العراق وفي المنشآت العسكرية التي يستخدمها التحالف.
وفقًا إلى ما أعلن عنه بايدن شخصيًا، سيستمر دعم قوات الأمن المحلية، بما في ذلك من خلال التدريبات، ولا تنوي واشنطن التخلي عن التشكيلات شبه العسكرية التي تضم العراقيين الأكراد. في المقابل، يبرهن الإعلان عن نهاية المهمة القتالية التزام واشنطن بفكرة إنهاء الحروب غير المبررة في مختلف أنحاء العالم.
ولفت الكاتب في تقريره المنشور في المجلة إلى سبب البقاء الأمريكي في العراق. حيث قال أنه ظل المسؤولون العسكريون الأمريكيون يكافحون لسنوات لخلق توازن بين الأطراف التي تعتقد أن الوجود الأمريكي ضروري لدعم الحكومة العراقية في حربها على تنظيم الدولة، والأطراف التي تعارض وجود القوات الأجنبية. ومع عودة القوات الأمريكية إلى العراق في سنة 2014 بعد القرار الذي اتخذته إدارة باراك أوباما في عام 2011 بشأن مغادرة البلاد، اقتصرت مهام الحملة التي تهدف إلى تدمير النواة الإقليمية لتنظيم الدولة على تقديم الاستشارات وتدريب الأفراد العسكريين العراقيين.
لطالما كان الخط الفاصل بين العمل العملياتي وتدريب القوات النظامية غير واضح، لدرجة أن إعلان بايدن عن انتهاء المهمة القتالية لا يبين الإطار الذي ستعمل ضمنه القوات الأمريكية في الوقت الراهن في العراق، خاصة إذا استمرت الهجمات الصاروخية التي تستهدف مواقعها من قبل القوات الموالية لإيران.
وفي تقريرٍ آخر نشرته مجلة "ذا دبلومات" أول أمس تم الحديث فيه عن أن النقاش حول إعادة تشكيل البعثة العراقية يتزامن مع تغير الظروف في أفغانستان، حيث يتعين على الولايات المتحدة بموجب اتفاقياتها المباشرة مع حركة طالبان سحب قواتها بحلول أيلول/ سبتمبر من العام الجاري. ويكمن الفرق الأساسي في أن إدارة بايدن أرادت زيادة تدفق الأفراد العسكريين إلى أقصى حد، من دون الإيفاء بأهم شروط اتفاق السلام مع طالبان.
حيث أنه لا تنطوي مبادرة بايدن في العراق على أي مخاوف بشأن الأحكام العرفية للحكومة المركزية، وإنما يتمثل الرهان الرئيسي في الحد من النفوذ السياسي لإيران. أما مستقبل أفغانستان، فيبدو مظلمًا، فكما أشارت التقديرات الأولية لأجهزة المخابرات الأمريكية فإن فقدان الدعم الأجنبي سيحرم القيادة الأفغانية من القدرة على إجراء العمليات الجوية والبحرية، والمحافظة على القدرة القتالية للجيش، ما يؤثر على قوات الأمن المحلية التي تستسلم بسرعة لطالبان.
وبيّن التقرير أن سلسلة قرارات الإدارة الأمريكية قد تؤثر على سوريا، وتُقلق بشكل خاص الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في هذا الصراع، وهو قوات سوريا الديمقراطية. كجزء من حملة مكافحة تنظيم الدولة، قدمت إدارة أوباما مساعدة نشطة لهذه الجماعات غير الحكومية، التي مثلت أبرز ثقل موازن لمقاتلي "الخلافة" المزعومة "على وجه الأرض". وقد ظهرت مؤخرًا أنباء مفادها أن واشنطن تستعد لمساعدة الأكراد السوريين الذين يسيطرون على شمال شرق سوريا للحصول على استقلالهم.
وبحسب الكاتب فإن علاقة واشنطن مع قوات سوريا الديمقراطية كانت محل انتقادات قبل وصول دونالد ترامب، الذي أبدى استعداده لتقليص القوات الأمريكية في سوريا بشكل قاطع. لكن بعد معارضة مستشاريه هذه الخطوة، قرر ترامب إبقاء عدد محدود من القوات في الشمال الشرقي. ولا يخفى على أحد أن الرغبة في السيطرة على حقول النفط المحلية هي المبرر الرئيسي لاستمرار التواجد الأمريكي في شمال سوريا.
وذُكر أيضًا في تقرير نشرته مجلة "بوليتيكو" اليوم أن شركة الطاقة "دلتا كريسنت إنرجي"، التي أسسها في سنة 2019 قدماء المحاربين الأمريكيين، أبرمت عقدًا مع إدارة شمال شرق سوريا لتطوير الحقول، علمًا أن نظام العقوبات الأمريكية المسلط ضد سوريا لم يشملها.
ونقل الكاتب في التقرير عن المبعوث السابق الخاص إلى سوريا، فريد هوف، أن رغبة الإدارة الأمريكية في تركيز جهود السياسة الخارجية على منطقة المحيطين الهندي والهادئ ونصف الكرة الغربي، فضلًا عن استعادة التحالفات الأمريكية مع الشركاء التقليديين، باتت جلية للعيان. مع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تواجه تحديات خاصةًً في سوريا من شأنها جعل الانسحاب صعبًا عسكريًا.
ويرى هوف أن خطر عودة تنظيم الدولة لا يزال قائمًا، ولا يستبعد محاولة دمشق استعادة سيطرتها على شمال شرق سوريا. ويضيف هوف أن النظام نفسه يمثل خطرًا على المنطقة والعالم بعد تحويل سوريا إلى دولة مخدرات. ولن يكون تنفيذ قرار إدارة بايدن بشأن سحب القوات من سوريا أسهل وأسرع إلا في حال التوصل إلى اتفاق ثابت بشأن الانتقال السياسي في سوريا، وهو أمر يبدو مستحيلًا.