في عام 2004، ألقت وزيرة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية هايدماري ويكزوريك-زول خطابا قالت فيه: "باسم كلمات الرب الذي نتشاركها في الصلاة، أطلب منكم مسامحتنا على تجاوزاتنا وذنوبنا. فدون ذكرى واعية وأسف واعتذار، لا يمكن أن يكون هناك تصالح".
جاءت هذه الكلمات أثناء احتفالية بالذكرى المئة لبداية حركة تمرد ضد الاستعمار الألماني التي انتهت بارتكاب القوات الألمانية مذابح في جنوب غرب أفريقيا الألمانية (التي أصبحت دولة ناميبيا)، من بينها مذبحة هيريرو وناما التي اعترفت ألمانيا بها مؤخرا.
واعتُبرت كلمات ويكزوريك-زول آنذاك اعترافا بمسؤولية ألمانيا الأدبية عن "الفظائع" التي وقعت، لكنها لم تكن اعترافا بها كمذبحة. كما أن هذه التصريحات لم تعبر عن موقف موحد للحكومة الألمانية، إذ كان هناك جناح رافض لهذا التحرك ووجه انتقادات قاسية للوزيرة الألمانية. مثّل وزير الخارجية الألماني آنذاك يوشكا فيشر هذا التيار، إذ قال في إحدى المناسبات لاحقا إنه "لن ينطق بكلمة تؤدي إلى تقديم تعويضات لناميبيا".
وجاء اعتراف ألمانيا بمذبحة هيريرو وناما اليوم ليطوي صفحة من المفاوضات والخلافات التي استمرت لعقود حول صيغة الاعتذار المناسبة لناميبيا.
ما قصة المذبحة
أعلنت ألمانيا استعمارها لناميبيا رسميا في مؤتمر برلين الذي عُقد بين عامي 1884-1885، لكن الوجود الألماني في المنطقة كان قد بدأ في منتصف القرن التاسع عشر، مع توافد التجار والمبشرين الألمان على جنوب غرب أفريقيا.
وقبل الوجود الألماني، اعتمدت قبائل عرقية هيريرو - التي كانت تمثل غالبية السكان - على الزراعة ورعاية الماشية بشكل أساسي في أنشطتها الاقتصادية. لكن وباء طاعون الماشية ضرب المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فاضطر أفراد القبائل للعمل لدى الألمان لتوفير احتياجاتهم.
ومع اشتداد الأزمة، اضطر زعماء القبائل لبيع الأراضي والماشية المملوكة للقبيلة للتجار والمبشرين الألمان، وكانت هذه نواة إعلان ناميبيا مستعمرة ألمانية.
ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية وقوة السلطة الألمانية في المنطقة، زادت حالة الاحتقان بين السكان الأصليين وبين المستعمرين الألمان، وزادت حالة السخط لدي أفراد القبائل الذين رأوا تحكم المستعمرين في أراضيهم وماشيتهم.
وسرعان ما تحولت حالة الاحتقان إلى خلافات، وبدأت أولى المعارك في بلدة أوكاهاندجا في يناير/كانون الثاني عام 1904. ولم تكن القوى متكافئة في هذه الحرب، حتى أن المؤرخ جان-بارت غيفالد يرجح أن هاجس القوات الألمانية من نشوب حركة تمرد جعلهم يخطئون في تفسير طبيعة أحد تجمعات هيريرو ويداهمونها، الأمر الذي أدى إلى نشوب المعركة من الأساس.
وعين الإمبراطور الألماني آنذاك فليهلم (غليوم) الثاني الفريق لوثر فون تروثا لإخماد حركة التمرد في ناميبيا. وانتصر فون تروثا في معاركه ضد السكان المحليين، حتى نجح في تطويقهم في منطقة ووتربيرغ وقطع جميع طرق الهرب أمامهم في منتصف أغسطس/آب 1905.
وفرضت قوات فون تروثا حصاراً على القوات المحلية في وسط ناميبيا، انتهى باستسلامها. ولم يضع الاستسلام نهاية لهذه الحرب، بل كان بداية لما يصفه المؤرخون بأول إبادة عرقية في القرن العشرين.
وفرت قوات القبائل المحلية شرقا إلى صحراء كالاهاري، باتجاه بوتسوانا التي كانت مستعمرة بريطانية آنذاك. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 1904، أصدر فون تروثا أمرا بإبادة كل أفراد قبائل هيريرو "الذين تطأ أقدامهم الأرض الألمانية" دون استثناء وشمل ذلك النساء والأطفال وغير المسلحين.
وقُرأ الأمر على الأسرى الذي كانوا بحوذة القوات الألمانية، ثم أُطلقوا إلى الصحراء لإبلاغ أفراد هيريرو الفارين بالأمر. وطاردت القوات الألمانية أفراد القبائل في الصحراء، تقتل من تجده في طريقها، وتمنعهم من الوصول إلى منابع المياه، وتسمم الآبار.
وبنهاية عام 1904، تعالت الضغوط الداخلية في ألمانيا لوقف هذه الحرب، وإرساء سياسات جديدة تخدم مصالح القوات الاستعمارية والسكان المحليين. لكن هذا كان بداية لفصل جديد في معاناة القبائل المحلية، إذ أمر المستشار الألماني آنذاك برنارد فون بولوف بإنشاء خمسة معسكرات لتنظيم العمالة.
ونُقل أفراد القبائل إلى هذه المعسكرات، التي ظلت مفتوحة حتى مطلع عام 1908. وكانت الظروف المعيشية فيها مزية للغاية، ونسبة الوفيات فيها شديدة.
وبعد إغلاق المعسكرات، كان قد قُتل 60 ألفا على الأقل من أفراد قبائل هيريرو البالغ عددهم مئة ألف، بجانب عشرة آلاف من قبائل ناما البالغ عددهم عشرين ألفا.
وفي نهاية عام 1907، أصدرت السلطة الألمانية قرارا يمنع السكان المحليين من امتلاك الأراضي والماشية والخيول، وأُدمج من بقي من السكان المحليين في نظام للعمالة يخدم المصالح الألمانية بالأساس. وفرت معظم الأسر إلى جنوب أفريقيا تجنبا للبطش الألماني.
ويرى المؤرخون والمحللون على السواء أن الأحداث التي وقعت بين عامي 1904 و1907 قضت على الأرث الثقافي للقبائل، ليس فقط بقتل أكثر من 80 في المئة من السكان، بل كذلك بتشتيتهم ومنع من بقي منهم عن استكمال أنشطتهم الاقتصادية التي ارتبطت بشكل وثيق بتراثهم الثقافي.