كتبَ نصر عارف: رؤيتان لمستقبل مصر.. الترميم أم التجديد؟

2021.03.04 - 08:44
Facebook Share
طباعة

حقيقة لا جدال فيها أن الشأن السياسي هو أعظم شئون المجتمع وأكثرها تعقيدًا، لأنه يحتاج إلى من يملك الرؤية الكلية، ويستطيع أن يلم بجميع أبعاد الموضوع، ويمزج بدقة بين مكونات المعادلة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية جميعها، ويكون قادرًا على ربط التاريخ بالحاضر وبالمستقبل، والإلمام بتعقيدات الجغرافيا وفرصها وضغوطها.


والناظر فى حال مصر الآن يجد أن هناك رؤيتين مختلفتين لمستقبل الدولة والمجتمع فيها، هاتان الرؤيتان لم يتم التعبير عنهما صراحة، ولم يحدث أن تم النقاش حولهما، ولكن يمكن أن نستشفهما من قراءة المشهد السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى مصر.


الرؤية الأولى التى اعتاد عليها سكان بر مصر على مدى السنوات الخمسين الماضية, منذ وفاة الرئيس جمال عبدالناصر رحمة الله عليه، وهى تقوم على فكرة الترميم، والترقيع الدائم، والمستمر دون إضافة جوهرية تحدث تغييرا هيكليا فى الاقتصاد أو فى المجتمع. وهذه الرؤية هى التى تعشعش فى عقول وقلوب الكثير من الشعب، ونخبه المثقفة، وطبقاته المتعلمة.


أما الرؤية الثانية وهى التى يتم تحقيقها فى الواقع دون الحديث عنها، ودون شرحها أو تفسيرها، ودون أن يكون هناك جهاز إعلامى، أو ثقافى يقدمها للشعب كما حدث فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وهى رؤية تقوم على بناء مصر جديدة بعيدة هناك فى الصحارى التى ظلت مهجورة لآلاف السنين.


الرؤية الأولى لمستقبل مصر تحلم بإصلاح وترميم البقعة الجغرافية التى يعيش فيها المجتمع المصرى، وتجديد البنية التحتية والطرق والشوارع والمواصلات، وتحلم بتعليم جيد يحمى الفقير من ضياع دخله البسيط على الدروس الخصوصية، وتوفير خدمات صحية بأسعار مناسبة لأصحاب الدخول المحدودة، وفتح المجال لأبواب الرزق؛ حتى لو جاء من مهن هامشية، أو من عمل خارج إطار النظم والمعايير، المهم أن تترك الدولة العباد يرزق بعضهم بعضا بأى كيفية يشاءون.


والرؤية الثانية ترى أن يصبر الشعب قليلا، أو كثيرا، ويحتمل بعض الصعاب لأنه سوف يتم تغيير حياته تغييرا كاملا، سوف ينتقل نقلة زمانية تقاس بالعقود والقرون, سوف تتاح له فرصة الحياة بصورة كريمة، وراقية تناسب العصر، وتنافس ما هو موجود فى العالم المحيط بمصر. لأنه سوف يتم بناء مصر جديدة ينتقل اليها من يستطيع، ليتسع مجال الحياة لمن لا يستطيع، ويصير من يستطيع ومن لا يستطيع فى بحبوحة من العيش بصورة تلقائية.


هذه الرؤية الثانية تحققت تاريخيا فى اليابان؛ ولليابان قصة مع الصعود والهبوط، مع القوة والانهيار إلى حد الدمار، ثم النهوض بسرعة فائقة، والقفز خطوات إلى العلا حتى تصير على قمة هرم العالم فما حدث فى اليابان يتعلق بمصر وما تمر به اليوم؟.


القصة أنه كانت فى اليابان خطوط سكك حديدية للقطارات بدأت منذ 1872، ثم انهارت تماما مع الحرب العالمية الثانية، وبدأ بعد الحرب نوع من الترميم والإصلاح، والتوسعة لهذه الشبكة، وفى لحظة حاسمة فى ستينيات القرن الماضى وجدت اليابان أن فكرة الإصلاح والترميم مكلفة جدا ولا تحقق الاستدامة، فما يتم إصلاحه اليوم يتعطل بعد فترة وهكذا، لذلك قررت أن تترك القديم كما هو يعمل فى حدود طاقته دون أن تنفق كثيرا على تجديده، وتطويره، وأن تنشئ خطوط سكك حديدية جديدة, بقطارات جديدة, تقوم على تكنولوجيا جديدة، تعمل بالطاقة النظيفة، وليس بالمازوت أو الفحم، وأن تترك للناس حرية الاختيار بين القطار القديم، والقطار الجديد، وكلاهما يذهب لنفس الاتجاهات، وينطلق من أماكن متقاربة.


ومع الزمن بدأ الذين يشتكون من سوء القطار القديم، وتهالك خدماته ينتقلون لاستخدام القطار الجديد ومع الزمن ترك اليابانيون القطار القديم كلية، ودخل هذا القطار المتحف، وتم تفكيك سككه الحديدية، وانتهى القطار القديم. وصارت هذه التجربة نموذجا ومثلا عالميا، يطبقه الناس فى كل مناحى الحياة..


جميع مجالات الحياة تنطبق عليها نظرية قطار اليابان الجديد، وهذا ما تعمل الرؤية الثانية على أن تسير فيه مصر فى قادم أيامها، فقد وصل التهالك والانهيار فى جميع المجالات حدا لا يصلح معه الإصلاح، ولا يفيد فيه الترميم، لذلك لابد من التوقف كلية عن إهدار الأموال على القطار القديم، أو على ما هو قائم فى دولة صارت كلها عشوائيات بمعنى أو بآخر، جميع مجالاتها عشوائيات، مصر تحتاج أن يتم إنشاء متوازيات لكل ما هو موجود، تحتاج إنشاء مستشفيات جديدة بمفاهيم جديدة يقوم عليها أطباء وهيئة تمريض وإدارة لا علاقة لها بالخريجين الموجودين حاليا، ونحتاج إنشاء مدن جديدة بمفاهيم حياة جديدة، ونترك ما هو قائم حتى تتوازن كثافته السكانية مع إمكاناته الموجودة حالياً, حينها يمكن الإصلاح والترميم. تحتاج سكك حديدية جديدة بمفاهيم وتكنولوجيا، ومسارات واتجاهات جديدة.


مصر تحتاج إلى أن تتبع نظرية قطار اليابان الجديد، وإلا ستظل تستنشق دخان فحم القطار القديم حتى يقتلها السواد. ولكن لابد أن يتم هذا بقدر كبير من المراعاة لحياة ركاب القطار القديم، أى الذين يعيشون فى المجتمعات المصرية التى صارت قديمة، وألا يتم تمويل ذلك من خلال إرهاقهم ماليا، وأن يكون هناك جهاز إعلام قوى وحديث ومناسب للقطار الجديد. ومؤسسات ثقافية تشرح للشعب حقيقة ما يجرى وتغرس فى نفسه الأمل الواسع الفسيح المبهج بمستقبل أفضل له ولأولاده.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 8