كتبَ سليمان عبد المنعم: عن سؤال الأمن والحرية في فرنسا

2020.11.28 - 09:55
Facebook Share
طباعة

 تعيش فرنسا حاليًا أحد نقاشاتها الجدلية الكبرى حول مشروع قانون الأمن الشامل Projet de loi sur la sécurité globale الذى وافق عليه البرلمان الفرنسي ( الجمعية الوطنية ) عقب قراءة أولى لكن سرعان ما اندلعت التظاهرات والاحتجاجات تعبيراً عن رفضه.


هذا الجدل المحتدم فى فرنسا يعكس فى الواقع أحد الأسئلة الدقيقة التى تواجه كل النظم القانونية العالمية فى سعيها المضنى للتوفيق بين الأمن والحرية.


والحقيقة أن سؤال الأمن والحرية ليس فقط سؤالاً قانونياً أو أمنياً أو سياسياً لكنه أيضاً سؤال اجتماعى بالأساس، لأن تحقيق الأمن هو بحد ذاته ضمانة لأحد حقوق الإنسان وهو الحق فى الأمان، أى أن يكون الشخص آمناً على حياته وسلامة جسده وعرضه وممتلكاته.


لكن المشكلة تكمن دائماً فى أن مهمة تحقيق الأمن تنطوى أحياناً على المساس بحقوق وحريات الإنسان بحكم أن الفعل الأمنى مثل الاستيقاف أو القبض هو بطبيعته فعل قهرى لا يُنفذ فى الغالب طواعية من جانب الخاضع له.


ويدق الأمر كثيراً حين يتم الفعل الأمنى لاعتبارات فرض النظام العام وتحقيق السكينة العامة وحماية الممتلكات لاسيّما أثناء التظاهرات الحاشدة، وإذا اُضيف لذلك ما قد يحدث من تجاوزات غير مبررة يغدو الأمر أكثر تعقيداً.


التقطت الحكومة الفرنسية بحساسية وسرعة ردود الأفعال الغاضبة لاسيّما من الصحافة ووسائل الإعلام و الجمعيات الحقوقية فأعلن رئيس وزرائها جان كاستكس الثلاثاء الماضى أنه سيقوم بنفسه بإحالة المادة 24 المثيرة للجدل من مشروع القانون إلى المجلس الدستوري لتقدير مدى توافقها مع أحكام الدستور الفرنسي.


وبعد يومين فقط أى يوم الخميس (أول أمس) قرر رئيس الوزراء الفرنسى تشكيل لجنة مستقلة لتقديم صياغة جديدة للمادة 24 محل الخلاف.


فى مشروع قانون الأمن والحرية الذي يتضمن 32 مادة قانونية ولم يعرض بعد على مجلس الشيوخ الفرنسى لإقراره بصفة نهائية تكاد تكون هناك 31 مادة قانونية لا تثير خلافاً يُذكر حولها، وحدها المادة 24 تنفرد بكونها الأشد إثارة للاعتراض.


مجمل مواد مشروع القانون لا تتضمن أكثر من تنظيم سلطات رجال الأمن، وخصوصاً الأمن التابع للمحليات، وتوسّع من نطاق اختصاصها بالتدخل على الطرق العامة وتوسّع كذلك قائمة الجرائم التى يجوز لها ضبطها، وتضع إطاراً قانونياً لم يكن موجوداً لاستخدام طائرات التصوير الصغيرة المسيّرة، وتنظم مسألة أمن التظاهرات الرياضية والترفيهية والثقافية، وتنظم قطاع الأمن الخاص ( شركات الأمن الخاصة ) باعتباره قطاعاً متنامياً يتعرض لبعض الانتقادات لكن مشروع القانون ينظر إليه كحلقة مهمة لتحقيق أمن البلاد لاسيّما فى ظل ما تنتظره فرنسا من تنظيم الألعاب الأوليمبية في 2024.


وينظم مشروع القانون بصرامة مسألة البطاقات المهنية التى تًمنح لبعض فئات الأشخاص، وأمن السكك الحديدية، ويُقيد مسألة شراء الألعاب النارية، ويبسط إجراءات رقابة قيادة السيارات تحت تأثير الكحوليات. هذه الأمور، وأخرى غيرها، لم تصادف اعتراضاً يُذكر من جانب أحد خلافاً للمادة 24 الشهيرة.


تكمن إشكالية المادة 24 من مشروع القانون الفرنسى فى كونها تجرّم فعل كل من نشر بأى وسيلة من وسائل النشر صورةً تُظهر وجه أحد رجال الأمن، أو ما يمكن أن يؤدى للتعرف عليه أثناء قيامه بوظيفته الأمنية إذا تم النشر بهدف إلحاق الضرر بسلامته الجسدية أو النفسية، ويُعاقب على هذا الفعل بعقوبة الحبس لمدة سنة وبغرامة مالية 45 ألف يورو.


ولعلّ استخدام شبكات التواصل الاجتماعي على نطاق واسع فى نشر عمليات إيقاف رجال الشرطة لبعض الأشخاص وما أسفر عنه ذلك من وفاة بعضهم أثناء عملية القبض أو الاعتقال هو ما أثار كل هذا الانتقاد لنص المادة 24.


ثمة قراءات ثلاث اجتماعية وقانونية وسياسية لهذا النص الجدلي. قراءة اجتماعية أولاً مؤداها أن المخاطر الأمنية تتزايد فى عالم اليوم بسبب تنامى ظواهر الإجرام والعنف عموماً، وحالة عدم الرضاء العام عن الأحوال المعيشية فى فرنسا على الخصوص والتى أفرزت الحركة الاحتجاجية المعروفة بـ السترات الصفراء .


وقد شهدت فرنسا مثلاً 93 ألف حالة اغتصاب فى عام 2018 فقط وفقاً لما نشرته صحيفة ليبراسيون الفرنسية فى 8 فبراير 2019. دخلت شبكات التواصل الاجتماعى على خط أزمة الجرائم السيبرانية التى يشهدها العالم حيث أصبحت هذه الشبكات ساحة مجهولة ومرئية فى الوقت نفسه لارتكاب الجرائم.


جزء من النقاش الاجتماعي الدائر فى العالم حالياً ينصب على السيناريوهات والمآلات المخيفة التي يكشف عنها الاستخدام غير المشروع لهذه المنصات فى وقت بلغ فيه عدد الحسابات الشخصية على شبكة فيسبوك وحدها ما يزيد على 2 مليار حساب.


وقد جاءت حادثة قتل الأمريكى جورج فلويد على يد رجال الشرطة فى مدينة مينابولس الأمريكية والتي تم بثها على شبكة إنترنت لتدق ناقوساً للخطر يطرح أسئلة شتى. فالبعض يرى فى النشر على شبكات التواصل الاجتماعى ممارسة لحرية التعبير ووسيلة لكشف بعض التجاوزات الأمنية، ويرى آخرون أن هذه الحرية فى النشر قد تلحق الضرر بالكشف عن هوية البعض واحتمال تعرضهم أو أفراد عائلاتهم للانتقام، وهو ما حدث بالفعل فى بعض الحالات المأساوية فى فرنسا منذ عدة سنوات.


نحن إذن أمام ظاهرة اجتماعية يتنازعها تقييمان متعارضان أولهما يتعلق بحماية حرية التعبير، والثانى يرتبط بوجوب حماية من تتمثل وظيفتهم الأمنية في حماية الآخرين. كيف السبيل إلى التوفيق بين القيمتين؟ تلك هي الإشكالية التي تواجه كل الأنظمة القانونية والتى سنعرف كيف ستجيب عليها فرنسا فى الأيام المقبلة.


القراءة القانونية لنص المادة 24 تقود إلى وجوب التفرقة بين أمرين أولهما أن ما يحظره النص الفرنسى ليس (تصوير) رجال الشرطة أثناء تنفيذ مهامهم الأمنية ولكن (نشر) هذه الصور على نحو يكشف الوجه أو أى شيء آخر كفيل بالتعرف على هويتهم. ويبدو أن الجمعيات الحقوقية والأوساط الإعلامية فى فرنسا وقطاع من الرأى العام غير مطمئنين تماماً لحسن إعمال هذه التفرقة على أرض الواقع برغم أن نص مشروع القانون الفرنسى يجعل من هذه الجريمة (المحتملة) جريمة عمدية لا تُسند قانوناً إلى فاعلها إلا إذا توافر لديه عنصر العمد متمثلاُ فى نية الإضرار بالسلامة الجسدية أو النفسية لرجل الشرطة الذي كشفت هويته.


القراءة السياسية أخيراً مؤداها أن فرنسا بما تجسده فى مجال حقوق وحريات الإنسان تبدو فى حرج باعتبارها الدولة الأوروبية الوحيدة التى توشك أن تصدر مثل هذا القانون. فعلتها من قبل إسبانيا لكن المحكمة الدستورية الإسبانية تصدّت لإلغاء القانون، وثمة تخوف من أن يُرفع الأمر بشأن مشروع القانون الفرنسى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.


لهذا أعلن رئيس الوزراء الفرنسى أنه سيحيل الأمر إلى المجلس الدستوري، ولربما تصل اللجنة التى تم تشكيلها أمس الأول إلى صياغة جديدة تحظى بالقبول العام. الأمر المؤكد أن إشكالية الأمن والحرية ستظل هاجساً لكل المجتمعات بما فيها أعرقها ديمقراطية.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 8