"دراويش" سوق "الحرامية" في دمشق: "السمعة إلنا والفعل لغيرنا"

وكالة أنباء آسيا – نور ملحم

2020.08.27 - 04:15
Facebook Share
طباعة

 


سوق الحرامية، أحد أشهر الأسواق وأسوأها سمعةً في دمشق، لا لشيء ملموس، وإنما لأن أحداً ما في زمن ما أطلق هذه التسمية "التحقيرية" على سوق لا يعمل فيه إلا الفقراء، ولا يشتري منه إلا الفقراء مثلهم.
لا يخلو الأمر من بعض الدخلاء بين الحين والآخر، ففي هذه الأيام يجد "المعفشون" في هذا السوق ركناً لهم، حتى وإن قوبل وجودهم بنظرات الازدراء من البائعين الآخرين، إلا أن القوة كثيراً ما تنتصر على الأخلاق، ليس هنا فقط، بل في كل مكان من هذه البلاد المسكينة، كما يهمس أصحاب البسطات في السوق.
كل ما لا تحتاج إليه!
سوق بلا أبواب، أو حراس أو رقابة، والأهم أنه بلا محلات تجارية، هو عبارة عن أرصفة قديمة متقابلة تقع تحت بناء قديم في شارع الثورة وسط العاصمة دمشق، يشرف على كراج لسيارات السرفيس القادمة من ريف دمشق .
وإذا أردت التسوق أو الشراء منه، فإنك حتماً محكوم بأخلاق وتقاليد الباعة فيه، فعلى تلك الأرصفة ترى باعة التعفيش الدخلاء وهم يكاسرون ويساومون وكأنهم يبيعون من جنى تعبهم، كما ترى باعة وجوههم صفر كحال الزمن في بلدهم، وقد ترك لهيب الشمس بصمته على تلك الوجوه المتعبة، التي تنعكس فيها فوضى المكان وبعثرة الأشياء، ناهيك عن رائحة الفقر التي تفوح من أنفاسهم اللاهثة خلف كفاف اليوم، هؤلاء سئموا المساومة فارتضوا أي مبلغ مقابل ما يبيعونه، فهمهم تأمين ما يسد رمق عائلاتهم لاغير.
على تلك الأرصفة تجد اليوم كل ما لا تحتاج إليه قبل أن تصدف ما أنت بحاجة له: كتب ومجلات وأشرطة فيديو، تحف ونحاسيات، آلات تسجيل، ألبسة، أحذية، ساعات، أشياء تعرفها وأخرى لا تعرفها. وإذا ما انعطفت نحو اليمين سيواجهك جناح خاص لبيع الموبيلات والأدوات الكهربائية.
لا حرامية .. إلا الدخلاء!
عند سؤالنا لأحد الباعة عن السوق وقصته الحقيقية غير المتداولة عبر الإعلام كان الجواب " الرجاء أن تتركونا في حالنا، نحن دراويش وجماعة على باب الله، رزقنا وأكلنا وشربنا متروك على ما نبيع على هذه البسطة ".
للحظة معينة ستدرك أن الأصح أن يُطلق عليه "سوق كل شيء شرط أن يكون مستعملاً"، وليس بالضرورة أن يكون تسمية السوق قد جاءت من وجود الحرامية فيه، علماً أن معظم، إن لم نقل كل السوريين، يعتقدون أن الأغراض المعروضة فيه هي مسروقة حتماً ، بحسب تعبير "أبو صطيف"، الذي أخبرنا أن سوق الحرامية موجود منذ خمسينات القرن الماضي في دمشق، وكان جزءاً من سوق الهال القديم ، ولا يقصده سوى الفقراء الذين لا يقدرون على الشراء من سوق آخر.
ينفخ الرجل الستيني دخان سيجارته المتعفنة في الجو ليكمل كلامه لوكالة أنباء آسيا قائلاً: لهذا السوق قواعد ولباعته "فلسفة" خاصة في العمل، تمليها عليهم الحاجة، فضلاً عن أنهم يبدون أحيانا مختلفين، فبعضهم يرتدي طقماً رسمياً، ومعظمهم يرتدي ثياباً رثة تشبه الألبسة التي يبيعونها، أما الضعفاء فلا مكان لهم في هذا السوق .
أما أبو العبد الذي يحمل على ظهره المحني سنواته السبعين، يقول لوكالة أنباء آسيا "أعمل في هذه السوق منذ خمسين عاماً، أبيع فيه الملابس، والحال هادئة ولا توجد إزعاجات"، لافتاً إلى أنه " لم تعد هناك مشاجرات بيننا وبين شرطة البلدية. أشتري بضاعتي من أشخاص مفلسين بأرخص الأثمان، فلا تنظروا إليها على أنها خردة، لا أحد يعلم متى تلزمنا هذه الأشياء".
لا ينكر أبو العبد وجود بعض "ضعاف النفوس" الذين خلفتهم الحرب وهم "لا يحللون ولا يحرمون" يكونون الواجهة لشخص معين يؤمن لهم البضائع والسلع ولديهم نسبة من البيع، لكن هذا ليس ذنب الجميع، "الكثير من العاملين في السوق لديهم أسر تنتظر عودتهم بالخبز ومستلزمات العيش، ولكن البعض يصر على وصفنا بأوصاف مشينة"، مبيناً أن أصل هذا السوق في الماضي كان مخصصاً ليوم الجمعة فقط، ولكن تطور مع الأيام والسنوات وأصبح لجميع الأيام، كما أنه كان في مناطق محددة، و"لكن اليوم أصبح في العاصمة عشرات الأسواق المشابهة لأمثالنا من الدراويش كما كان يطلق عليه، وهي متوزعة بشكل جغرافي بحيث يمكن تصريف البضائع فيها ".
وبحسب أبو العبد فإن الكثير من العاملين في تصوير المسلسلات والأفلام يستعينون بهذا السوق لشراء الزجاج والأدوات التي يرغبون بتكسيرها بحال كان لديهم مشاهد للتكسير، والسبب في ذلك السعر الرخيص جداً.

بؤرة ..
واليوم، بعدما فشلت محافظة دمشق بتنظيم عمل أسواق الفقراء بشكل عام، وسوق "الحرامية" بشكل خاص، قامت ببناء سور لعزل السوق عن منطقة المشاة والسيارات، للتخفيف من الاختناقات المرورية، لكن هذا السور تحول إلى بؤرة لرمي القمامة من أمتعة وأغراض قديمة غير قابلة للاستعمال، وبقايا الخضار والفواكه الفاسدة، كما أنه تحول إلى مكان لقضاء حاجة أصحاب البسطات والسائقين!.
وكشف عضو المكتب التنفيذي في محافظة دمشق، فيصل سرور، عن دراسة لتنظيم سوق الحرامية، لافتاً إلى أن سبب التجديد هو شكل المكان العشوائي للسوق الحالي، والذي بات مصدر إزعاج، فضلاً عن كونه غير مناسب من الناحية الشكلية لمنطقة تقع وسط العاصمة، حسب قوله.
وأضاف سرور بأن المخطط هو أن يصبح السوق مخصصاً للبسطات التي عجزت المحافظة عن مكافحتها، وبالتالي سيكون لأي مواطن الحق بفتح بسطة فيه مجاناً.
ومن أهم أسباب ازدهار هذا السوق خلال السنوات الأخيرة، سوء الحالة الاقتصادية، وتدني المستوى المعيشي للسوريين، فكثيراً ما يبارك هذا السوق زواج أشخاص دراويش، بمنحهم غرف نوم بأسعار زهيدة جداً .

حرامية حقيقيون!
ويبقى أبو صطيف وأمثاله كثيرين في هذا السوق، على استعداد تام لالتقاط أي زبون، كأنهم جنود على أهبة الاستعداد لهجوم مفاجئ. ولكن الوجوه المكفهرة ما فتأت تخبئ شعوراً عميقا بالأسى والخذلان، بسبب اللقب الذي رافق بائعي السوق طيلة حياتهم، وسيرافق أبناءهم وأحفادهم من بعدهم، نتيجة سعيهم للحصول على لقمة عيشهم فقط بعدما عجزت الدولة على تأمين حاجاتهم، فيما يعيث الحرامية الحقيقيين فساداً في طول البلاد وعرضها، ويروجون لبضاعتهم الفاسدة في أحدث الأسواق والقصور والمؤسسات، وتحت نظر وعين الجميع .

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 2