العملاق المتسوّل

عادل شريفي

2020.06.28 - 01:02
Facebook Share
طباعة


لا يخفى على قارئ متبحّر مكانة دوستويفسكي الأدبيّة في عالم الرّواية والقصّة، والمقال بشكل عام، إذ ربّما لا تجد روايةً أكثر شهرةً من "الجريمة والعقاب"، أو "الأخوة كرمازوف"، والتّي ربّما أصبحت كلّ واحدةٍ منهما عنواناً لأكثر من نسخة من الأفلام السينمائيّة بمنظورات مختلفة على مدى عقودٍ من الزّمن، الأمر الذي لم يُتح لكاتبٍ آخر، أو رواياتٍ أخرى. عملاق الأدب الرّوسي هذا الذي أرسى قواعد المدرسة الواقعية في الأدب، وأبدع فيما سمّي بالبولفونيّة الرّوائية (تعدد الرواة والأصوات والرؤى داخل الرواية الواحدة) ومهّد الطّريق لما يُسمى بالرّواية الفلسفيّة، وتربّع على عرش الكتابة العالميّة، لم تستطع منجزاته تلك أن تشفع له من غضب القيصر الذي حكم عليه بالإعدام (وإن لم ينفّذ) فسجن وعذّب ونفي مثل أيّ مجرمٍ عاديّ! تصوّر أنك تستطيع أن ترى في سجن القيصر العملاق دوستويفسكي يتشاطر الزنزانة مع مغتصب أو قاتل أو قاطع طريق. إنّما من أشدّ فترات حياة دوستويفسكي مرارة كانت بعدما عفى عنه القيصر وتركه في الشّوارع يتسول قوت يومه، فلا جريدة ولا دار نشر تقبل أن تتعامل مع عدوٍ للقيصر، إذاً لا غرابة أن نجد قوانين حصار لشعب كامل تحمل اسم قيصر!
أكاد أقول جازماً أنّ القياصرة كلّهم متفقون على إسكات أيّ صوتٍ ذي نبرة إنسانيّة، فهذه الأصوات على خفوتها تهدد انسيابيّة وتناسق سيمفونيّة الظّلم التي تُعزف على مرّ العصور ويتناوب عليها مايسترو تلو آخر. وكم من عملاق متسولٍ في زماننا هذا، وكم سيكشف لنا المستقبل عن طاقات عظامٍ سحقها ظلم قيصرٍ هنا، وامبراطورٍ هناك. ربّما هو قدر العظماء أن يتسوّلوا عيشهم، أو ربّما أنّ الإنسانيّة لم ترقَ بعد لمرحلة من النّضوج تميّز بها الطّاقات الخلاقة قبل أن تسبكها نارُ الحرمان والعذاب.
عندما ينظر المرء إلى حياة الأشخاص الفارغين، والتّكريم والتّبجيل اللذان ينعمون بهما في مقابل مأساة أشخاصٍ كدوستويفسكي، يُدرك تماماً مدى القصور الفكري في الضّمير الإنساني الجمعي، ويدرك كم نحن محكومون بمناهج فكرية ممسوخة، وعمليات غسل دماغٍ مستمرّة تعطينا نتيجة واحدة هي، "طالما أنّ العظماء متسولون، فالبقيّة صامتون"..........


عادل أحمد شريفي
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 3