شهدت سوريا تحوّلًا تاريخيًا في كانون الأول/ديسمبر 2024 بسقوط النظام الحاكم، منهياً أكثر من خمسين عامًا من السيطرة السياسية لعائلة واحدة، لكنه فتح الباب أمام مرحلة انتقالية معقدة تخللتها أعمال عنف مقلقة، خصوصًا في المناطق الساحلية ذات الأغلبية العلوية، حيث تفاقمت الانتهاكات بحق المدنيين مع تصاعد التوترات الطائفية والانفلات الأمني.
تصاعد القتل والتهجير في الساحل
مع بداية آذار/مارس 2025، أبلغت تقارير حقوقية عن وقوع انتهاكات جسيمة ارتكبتها ميليشيات مسلحة يُعتقد أنها على صلة بالحكومة الانتقالية الجديدة، إلى جانب مجموعات مدعومة من قوى إقليمية كتركيا وقطر. ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، تجاوز عدد ضحايا هذه العمليات 1470 شخصًا خلال أيام قليلة، معظمهم من الطائفة العلوية، فيما تتواصل أعمال القتل والتنكيل خارج نطاق القانون.
ما يُثير القلق هو تواتر الشهادات حول تنفيذ عمليات إعدام ميدانية، وتعذيب علني، وأعمال ترهيب ممنهجة، وثقت جميعها عبر مقاطع فيديو انتشرت بكثافة على منصات التواصل، لتكشف عما يمكن وصفه بأنه حملة انتقام جماعي.
في ظل هذا التصعيد، فرّ آلاف المدنيين من القرى الساحلية، ولجأ كثيرون إلى المناطق الجبلية والغابات، بينما تمكّن البعض من العبور إلى لبنان. هذه الموجة الجديدة من النزوح تفتح الباب مجددًا لأزمة إنسانية تنذر بتداعيات طويلة الأمد.
جذور الانقسام وخلفيات الأزمة
يعود جزء كبير من الاحتقان الحالي إلى سياسات اعتمدها النظام السابق لعقود، حيث استخدم الاستقطاب الطائفي كأداة سياسية لترسيخ سلطته. رُوّج للطائفة العلوية باعتبارها درعًا لحماية الأقليات، مما فاقم الانقسامات داخل المجتمع السوري، وزاد من الشكوك والعداوات المتبادلة.
عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011، سلك النظام نهجًا قمعيًا شديدًا، سرعان ما دفع البلاد نحو صراع مفتوح. وعلى مدى السنوات التالية، اتّبع النظام سياسات تغيير ديموغرافي، أبرزها عمليات التهجير الجماعي التي غيّرت التركيبة السكانية في العديد من المناطق.
انهيار السلطة وتداعياته
جاءت نهاية الحكم السابق بعد هجوم عسكري واسع شنه تحالف فصائل المعارضة، بقيادة “هيئة تحرير الشام” وبدعم من "الجيش الوطني السوري". هذا الهجوم أسفر عن السيطرة على مدن رئيسية وصولًا إلى العاصمة دمشق، ما أدى إلى فراغ سياسي واسع ومفاجئ، معلنًا بذلك نهاية عهد دام لعقود.
أعقب هذا الانهيار السياسي تشكيل حكومة انتقالية، برز فيها أحمد الشرع المعروف بـ”أبو محمد الجولاني” كقائد فعلي، فيما أُسندت رئاسة الحكومة إلى محمد البشير. ورغم التصريحات الرسمية التي تعهدت بإرساء العدالة، برزت تحديات كبيرة على الأرض، خصوصًا فيما يتعلق بالسيطرة على الفصائل المسلحة، ووقف الانتهاكات المتكررة.
اتهامات وعجز حكومي
رغم تعهد الحكومة الانتقالية بمحاسبة المسؤولين عن المجازر، أظهرت تقارير أن بعض هذه الجماعات تعمل ضمن مظلة وزارات رسمية، ما يطرح تساؤلات حول تورط الحكومة أو عدم قدرتها على ضبط تحركات هذه التشكيلات.
إضافة لذلك، وُجّهت انتقادات لوسائل إعلام مقربة من الحكومة بتلميع صورة الوضع، من خلال تغطيات إعلامية لمناطق “آمنة”، مع تغييب شهادات المتضررين من أعمال العنف، بل وتضييق على الأهالي لفرض تأييد ظاهري للحكومة الجديدة.
شهادات من السكان المحليين تحدثت عن تهديدات مباشرة وُجهت لوجهاء القرى، تجبرهم على دعم الرواية الرسمية مقابل الحفاظ على “أمن” قراهم. في أحد الفيديوهات التي انتشرت مؤخراً، رفض أحد السكان المساعدات المقدّمة من الهلال الأحمر، متهمًا السلطة بالازدواجية: "تمدّون لنا يدًا صباحًا وتغمدون سيوفكم في أجسادنا ليلًا".
الموقف الدولي والدعوات للمحاسبة
المجتمع الدولي لم يقف صامتًا أمام هذه التطورات. وأصدر مجلس الأمن بيانًا طالب فيه الحكومة السورية الانتقالية بضمان التزامها بالمعايير الإنسانية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. كما شدد البيان على ضرورة احترام التنوع الطائفي، والعمل على تأسيس دولة قائمة على المواطنة والعدالة والمساواة.
ومع أن الحكومة الجديدة أظهرت مؤشرات على الرغبة بالتعاون، إلا أن الشكوك لا تزال تحيط بمدى جديتها في ضمان حماية الأقليات، ووقف حالات الانتقام، والانتقال بسوريا نحو مرحلة من المصالحة الوطنية الحقيقية.
في خضم هذه التطورات، تبقى الحاجة ماسة لجهد وطني شامل يضمن عدم تكرار دوامة العنف الطائفي، والبدء فعليًا بعملية بناء الدولة من جديد على أسس المواطنة والعدالة.