الحديث عن الطائفة قد يبدو طائفياً بحد ذاته، لكن تجاهل الكارثة الواقعة على الشيعة في لبنان هو مشاركة في ظلم تاريخي يتهدد وجودهم. فالمخاطر التي تحيط بالشيعة لا تتساوى في حجمها مع تلك التي تواجه بقية اللبنانيين. هم من تعرضوا لحرب إبادة إسرائيلية، وهم المهددون الآن، إن ظهرت عليهم علامات الضعف الشاملة، بحرب إسرائيلية جديدة للقضاء عليهم وجودياً، بمساعدة من التكفيريين ولو من دون تحالف إسرائيلي مباشر معهم.
هل كل الشيعة في الخطر سواء؟
السيد ياسر مخلوف، علوي بالولادة، شيوعي فكراً، انتمى في السبعينيات إلى حزب العمل الشيوعي السوري، وهو قريب لعائلة الرئيس الاسد من جهة الأم، وقريب مباشر للنافذين من آل مخلوف.
اعتقل هذا الملحد العلوي في زمن حافظ الأسد، وبقي في السجن في زمن بشار، ولم يخرج إلا بعد أكثر من خمس عشرة سنة قضاها في السجن.
والرجل يملك بالوراثة بستاناً في قريته وقرية أجداده، وحين سقط النظام أقام احتفالات عارمة في بستانه، وبايع هذا الشيوعي الملحد النظام الذي أسسه تنظيم القاعدة سابقاً في دمشق باسم الثورة.
ثم اندلعت أحداث السادس من آذار الماضي، التي صارت رسميا تسمى مذابح أذار ضد العلويين.
ياسر مخلوف، المعارض المضطهد من ال الاسد، والذي قضى في السجن البعثي أكثر مما قضى فيه أبرز حكام دمشق الحاليين، تعرض لنفس المجازر التي تعرضت لها الطائفة العلوية. هو والآلاف من العلويين الملحدين والشيوعيين والمحسوبين على السعودية والموالين لأميركا، بل حتى الموالين لإسرائيل علناً من العلويين، تعرضوا للقتل والذبح والتنكيل.
ياسر مخلوف لا يزال حياً، لكن أملاكه صودرت، وعائلته فقدت الكثيرين من أفرادها، ونجاته كانت بالصدفة. لكنه فقد كل ما يملكه وفقد أحبته. فهل يعتقد عاقل أن الشيعي المتعيِّش على أموال الأميركيين والسعوديين سيكون له وضعية مميزة في حرب الإبادة التي تتحضّر إسرائيل لإطلاقها ضد الشيعة في لبنان إذا ما تيقنت هي والأميركيون أنهم لا يملكون القدرة على اذية من يريد ابادتهم ؟
الشيعة، لا غيرهم، هم من يتعرضون لحصار متعدد الأبعاد: عسكري، أمني، اقتصادي، ومالي. فحتى بواخر الحديد اللازمة لإعادة الإعمار يتابعها الأميركيون مباشرة مع دول يُفترض أنها ليست معادية للشيعة في لبنان، ولا تأتمر بأمر الأميركيين. ويكفي أن تنظر إلى تفاصيل صغيرة، كاستبعاد موظفين شيعة من مطار بيروت، حتى ترى حجم الاستهداف.
ما هو مخطط إسرائيل المدعوم أميركياً؟
استعباد اللبنانيين عامة، ووضع بلدنا تحت النفوذ الإسرائيلي بالطريقة التي نراها في رام الله. أي تحويل اللبنانيين الصالحين للاستخدام الإسرائيلي إلى عمالة رخيصة في مصانع ومصالح إسرائيلية، او عسكريين يقاتلون نيابة عن اسرائيل كما تفعل اجهزة السلطة في رام الله مع سكان الضفة المدنيي، ومن ثم اسرائيل التي استوطنت فلسطين المحتلة تريد ايضا استيطان أرضنا. وليحصل ذلك، تحتاج إسرائيل، التي تسعى لتنفيذ مشروعها "إسرائيل الكبرى"، إلى القضاء على مصادر القوة في لبنان، والتي لا يمثلها تسليحياً إلا الجمهور الشيعي مباشرة، قبل الأحزاب المقاتلة من بينهم. وهذا المشروع ليس وهماً. وغزة، التي تُباد وجودياً ومادياً وبشرياً، ليست بأخطر على إسرائيل من الشيعة اللبنانيين. وما تفعله إسرائيل في غزة جائزته أقل مما قد ينتج عن طرد الشيعة من الجنوب والبقاع إلى العراق أو إلى غيره. فبلادنا مطمع للإسرائيليين، وما منعهم عنها هو مقاومة الشيعة خاصة، واللبنانيين عامة حتى العام 2000، وردع السلاح الشيعي للإسرائيلي منذ 2006 إلى 2024.
ما نراه من منع للتمويل الموجَّه للإعمار، ومن حصار يستهدف كل شيعي يحمل ذهباً أو عملة نقدية قادماً من الخارج، ليس وهماً بل حقائق. وسوف يعودون إلى الحرب بهدف إبادة العمران وإبعاد السكان، حتى يتخلص أصحاب مشاريع الازدهار والشراكة الاقتصادية بين إسرائيل والعرب ممن يمثلون تلك القوة التي خربت مشاريع إسرائيل وأميركا والخليجيين العرب المتحالفين معهم منذ العام 1982، لا في لبنان فقط، بل في سوريا واليمن والعراق أيضاً.
ومن هنا تأتي ضرورة الحوار مع النخب من الأميركيين، ثم مع منفذي القرار من الرسميين، من موقع شيعي مستقل عن أي طرف إقليمي، لأن القرار الأميركي لا يُبنى في البيت الأبيض، بل في مراكز نفوذ عديدة، بعضها من السهل الوصول إليه عبر المغتربين الشيعة وعبر الشيعة الفاعلين في لبنان.
كما أن الحوار مع السعوديين ومن يدور في فلكهم من العرب أكثر من ضروري، لا من موقع الضعف، بل من موقع الندية والاستقلالية. فالحوار ليس تنازلاً، بل ضرورة وجودية تهدف إلى تفكيك مشروع حرب الإبادة الذي يُحضّر للبنان، والمطلوب هو تقديم رؤية تتقاطع فيها المصالح، بحيث يصبح بقاء الشيعة في أرضهم مصلحة للأميركيين وللسعوديين تفوق مصلحتهم في مساندة حرب إسرائيلية لطردهم. فالأميركي عاقل، ويفهم أنه إن كانت كلفة القتال عشرة أضعاف كلفة التفاهم، فسوف يختار التفاهم.
الشيعة في 2025 يعيشون مرحلة حفظ الوجود، لذا لا يجب أن يكونوا رأس حربة او جزءا من حروب ضد المشاريع الدولية والإقليمية خارج لبنان لانهم بكل بساطة لا يملكون ترف خوض الحروب الاقليمية بقوتهم الذاتية. وما بقي لهم من قدرات يجب أن يمثل عامل حفظ الوجود، ولا يُسخّر لخدمة الآخرين أياً كانوا، لأننا إن لم نبقَ في أرضنا، فكيف يفيد ذلك حلفاء أو ضعفاء نريد نصرتهم؟
إن الحوار سيؤتي ثماره، لأن الأميركي والسعودي يعرفان تماماً أن الشيعة في لبنان ليسوا لقمة سائغة، ولديهم خبرة وتجربة ميدانية يعرفها السعوديون والأميركيون والسوريون جيداً من الميدان، من اليمن إلى سوريا. وإذا كان الشيعة قد خاضوا معاركهم سابقاً دفاعاً عن خيارات بعضهم الإقليمية، فإنهم اليوم يريدون أن يستبدلوا قرار بعضهم العسكري بقرار موحد جماعي يمثلهم جميعاً، وهم يختارون المواجهة بالحوار المشرّف أو المواجهة من اجل الحوار المشرف، لا خوفاً، بل إيماناً بأن التفاوض الذكي قد يوفر على الجميع كلفة الدم، وأن قبولهم كطرف لا يُكسر ولا يُلغى هو ضمانة لأي استقرار.
وإن لم يُستجب لهذا الطرح، فإن استمرار التفاوض يجب أن يتزامن مع القدرة على إظهار القوة، لأن لا بديل عن الحوار إلا الحوار بعد إظهار القدرة على تخريب مشاريع الخصوم والعدو.
الولايات المتحدة، التي تقود حربًا شاملة في المنطقة، لا ترى الشيعة ككتلة موحدة، لكنها تتعامل مع كل فرد فيهم كتهديد محتمل بسبب مشاركة بعضهم الفعلية في معارك جيوسياسية أثرت على مصالح واشنطن وتل أبيب والرياض، من سوريا إلى العراق، ومن اليمن إلى غزة.
الخطوة الأولى للنجاة هي الاعتراف بحجم الخطر، وتوحيد النخبة الشيعية على اختلافها: من الأحزاب، إلى الشخصيات المستقلة، إلى الأكاديميين والمغتربين. ثم البدء بالتفاوض انطلاقاً من موقع الندية، لا الضعف.
ولكي يتحقق ذلك، هناك خطوات عاجلة ومصيرية:
1. توحيد النخب الشيعية في مجلس شيعي جامع لا يخضع لطرف سياسي حزبي واحد، بل يضم ممثلين عن الأحزاب والنخب والعشائر والفاعلين والاقتصاديين والمغتربين. الهدف من هذا المجلس هو ضمان أن لا تُتخذ قرارات مصيرية عن الطائفة من قبل قلة لا تقبل حتى بنقاش مسؤوليتها عما وصلنا اليه من كوارث ، رغم فشلها في تقدير المخارطر وهي تتصرف كمن قاد باصا الى واد سحيق بسبب الضباب، ثم اصر على نقل الباقين من الاحياء بنفس الباص عبر نفس الطريق وربما يسقطنا مجددا بنفس الوادي ثم يعلن ان السبب هو الضباب.
2. الانفتاح الشعبي، لا النخبوي فقط، على بقية الطوائف من موقع الشراكة لا الاستجداء. لا بد من إشراك النخب الشبابية والناشطين من الشيعة في تكامل انساني مع انصار وبيئة قوى وازنة مثل تيار المستقبل، التيار الوطني الحر، مثقفي بيئة القوات اللبنانية ، والاحزاب الدرزية من خارج التناذر والاستفزازالطائفي، بل بروحية الساعين لاكتساب القلوب والعقول من خلال تفهم الاخر ومخاوفه عبر حوار شعبي حقيقي بعيد عن الاستفزاز والتحريض.
3. فتح قنوات تواصل جدي مع النظامين السعودي والسوري الجديدين، لأن الجغرافيا والمصالح لا يمكن تجاوزها. ولا يمكن تحييد مستقبل الشيعة في لبنان عن تأثير سوريا والسعودية على الساحتين السنية والسياسية في لبنان.
4. مواجهة الحرب الإعلامية الممنهجة التي تُدار من منابر لبنانية وخليجية بهدف شيطنة الشيعة وتبرير الحرب عليهم. المواجهة يجب أن تكون بالقانون والإعلام الإيجابي والتفاعل الشعبي، لا بالشتائم أو الردود الانفعالية.
5. إبعاد الفاشلين عن الواجهة السياسية والإعلامية، ممن أثبتوا فشلهم في التحليل والتخطيط وضللوا القيادة، وكانوا جزءاً من المشكلة لا من الحل. المطلوب وجوه جديدة تفكر وتخطط بمسؤولية وتتحدث باسم الناس لا باسم مصالحها.
6. تنظيم الجاليات الشيعية عالمياً، وتفعيلها كقوة ضغط سياسية واقتصادية وإعلامية من أوروبا وأفريقيا وأميركا لمصلحة شيعة الداخل وقضاياهم.
7. إعادة هيكلة القوى المباشرة المقاتلة التي تمتلك السلاح المقاوم ضمن مؤسسة الدولة، من خلال دمجها في تشكيلة القوات المسلحة اللبنانية بالشكل الذي لا يفقدها قدرتها على الردع ولا يكبلها بالضغوط والنفوذ الخارجي على الدولة. وربما عبر استراتيجية دفاعية وطنية تحول الجيش اللبناني، الى قوات مسلحة على الطريقة السويسرية او العراقية او حتى عبر تبني الاسلوب الاميركي الذي يتيح فكرة التسلح وتنظيم جماعات مسلحة لكل المواطنين دون المساس بخصوصية الدستور وحصرية امتلاك الدولة للسلاح الردعي. بحيث اذا تخلفت القوى الرسمية التقليدية عن مهمة الدفاع عن لبنان فان القوى الشعبية في القوات المسلحة تتولى المهمة الدفاعية لا الهجومية ولا تلك التي تتيح الدخول في حروب خارج الاراضي اللبنانية، و يمكن ربما اعتماد نموذج "سرايا المقاومة اللبنانية" المرتبطة بالبلديات، بإشراف وزارة الدفاع، ضمن قرار مركزي لا يُستخدم إلا للدفاع.
8. المطالبة الجدية بالمشاركة العادلة في الدولة، عبر مبدأ المثالثة الواقعية، لأن الشيعة، رغم أنهم ثلث اللبنانيين، لا يشغلون في المناصب السيادية الحساسة والمؤثرة والحاسمة عدا رئاسة مجلس النواب سوى منصب سيادي أمني واحد هو مدير الامن العام في حين ان كل المراكز الامنية والعسكرية الاساسية في البلد ممنوعة على الضباط الشيعة. فهل هذا هو مفهوم المشاركة الوطنية؟
هذه ليست دعوة للانقسام الطائفي، بل نداء لإنقاذ الوطن. ومن لا يستطيع إنقاذ بيته الداخلي، لا يمكنه إنقاذ وطن بأكمله. الحوار مع الأميركيين ليس ترفاً، بل خيار لا بد منه. أما الأوروبيون، فرغم دعمهم لإسرائيل، إلا أنهم أقرب لفتح باب المصالح المشتركة.
الخطر حقيقي، والكارثة تتوسع. ومن يملك رؤية فليتقدم، ومن يرفض، فليقدّم بديلاً واقعياً. لأن تجاهل الخطر... هو أخطر من الخطر نفسه.