منذ عقود، فرضت الولايات المتحدة سلسلة من العقوبات على سوريا، تصاعدت تدريجيًا لتصل إلى ذروتها بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011. وبعد سقوط نظام بشار الأسد، طالبت الحكومة السورية الجديدة برفع هذه العقوبات، بحجة أن النظام السابق كان السبب وراء فرضها، وبالتالي يجب أن تزول بزواله. ومع ذلك، فإن العقوبات المفروضة على سوريا تستند إلى مجموعة معقدة من القوانين والتشريعات التي تجعل من رفعها عملية صعبة، تتطلب توافقًا دوليًا واستيفاء شروط محددة.
يهدف هذا المقال إلى تحليل العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا عبر المراحل المختلفة، بدءًا من العقوبات الأولى في عام 1979، مرورًا بالعقوبات المتعددة التي فُرضت خلال العقدين الماضيين، وصولًا إلى قوانين قيصر والكبتاغون، وتأثيرها على المشهد السوري الراهن.
العقوبات الأميركية قبل 2011
العقوبات الأولى (1979-2000)
بدأت العقوبات الأميركية على سوريا في ديسمبر/كانون الأول 1979 عندما أدرجت واشنطن دمشق على قائمة الدول الراعية للإرهاب، بسبب دعمها لفصائل فلسطينية مسلحة مثل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة" وحركة "فتح الانتفاضة"، إضافةً إلى دعمها حزب الله اللبناني وتدخلها العسكري في لبنان. أدى هذا التصنيف إلى فرض حظر شامل على صادرات الأسلحة والمبيعات الدفاعية لسوريا، وقيود صارمة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري، مثل المعدات الإلكترونية المتقدمة والمواد الكيميائية التي يمكن استخدامها في التصنيع العسكري.
مع دخول التسعينيات، استمرت العقوبات بالتوسع على خلفية عدة أحداث إقليمية، من بينها موقف دمشق من حرب الخليج الثانية (1990-1991) ودورها في دعم حزب الله اللبناني ضد إسرائيل. وعلى الرغم من مشاركة سوريا في التحالف الدولي لتحرير الكويت، فإن التوترات بين واشنطن ودمشق لم تهدأ، بل زادت حدةً بسبب استمرار سوريا في استضافة قادة حركات فلسطينية مصنفة أميركياً كـ "إرهابية"، إلى جانب سياساتها في لبنان، حيث كانت سوريا تفرض سيطرة واسعة على القرار السياسي والأمني اللبناني.
في عام 1996، صعّدت الولايات المتحدة إجراءاتها العقابية بإقرار "قانون مكافحة الإرهاب الأميركي"، الذي شدد القيود على التعاملات المالية مع الدول المصنفة كـ"راعية للإرهاب"، بما في ذلك سوريا، مما جعل المصارف والشركات الأميركية أكثر تقييداً في أي تعامل مالي أو تجاري مع دمشق. هذا القانون مهّد لاحقاً لفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية التي طالت قطاعات أوسع من الاقتصاد السوري، بما في ذلك البنوك الحكومية وشركات الطيران.
ومع نهاية التسعينيات، استمر الضغط الأميركي على سوريا بسبب اتهامات بدعم الفصائل المسلحة في فلسطين ولبنان، ورفضها تقديم تنازلات في المفاوضات مع إسرائيل، حيث شكل ذلك أحد العوامل التي دفعت إدارة الرئيس بيل كلينتون إلى الإبقاء على العقوبات، بل وفرض مزيد من القيود، خصوصاً في مجال التكنولوجيا والتمويل.
قانون محاسبة سوريا (2004)
في عام 2004، تبنت الولايات المتحدة قانون "محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية"، الذي جاء في سياق تصاعد التوترات بين واشنطن ودمشق، وخاصةً بعد اتهام الإدارة الأميركية للنظام السوري بلعب دور سلبي في استقرار المنطقة. كان القانون يهدف بشكل أساسي إلى الضغط على سوريا لإنهاء وجودها العسكري والسياسي في لبنان، والذي استمر منذ عام 1976، بالإضافة إلى معاقبة دمشق على دعمها فصائل مسلحة، مثل حزب الله اللبناني، والفصائل الفلسطينية المقاومة، فضلًا عن اتهامها بتسهيل عبور المقاتلين والأسلحة إلى العراق عقب الغزو الأميركي عام 2003.
العقوبات التي فرضها القانون:
- حظر تصدير المواد الأميركية إلى سوريا، باستثناء المواد الغذائية والطبية، مما حدّ من قدرة دمشق على الوصول إلى التقنيات المتقدمة والمعدات الضرورية لبعض القطاعات الحيوية.
- فرض قيود على حركة البعثة الدبلوماسية السورية في واشنطن ونيويورك، حيث مُنع الدبلوماسيون السوريون من التنقل بحرية خارج نطاق معين، ما زاد من تقييد العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
- فرض عقوبات على شركات الطيران السورية، إذ حُظرت رحلات الطيران السورية إلى الولايات المتحدة، ومنعت الشركات الأميركية من تقديم أي خدمات لصيانة الطائرات السورية أو تزويدها بالمعدات.
- تجميد الأصول المالية لبعض المسؤولين السوريين، وفرض قيود إضافية على أي تحويلات مالية تتعلق بمؤسسات حكومية أو شخصيات نافذة في النظام.
ومع استمرار التوترات، قامت إدارة الرئيس جورج بوش الابن في عام 2006 بتوسيع العقوبات المفروضة على سوريا، مستندة إلى قانون "محاسبة سوريا"، ولكن هذه المرة استهدفت القطاع المصرفي السوري بشكل مباشر. تم حظر جميع التعاملات المالية بين البنوك الأميركية والبنك التجاري السوري، وهو أكبر المصارف الحكومية في البلاد، كما تم اتهامه بتمويل "أنشطة إرهابية" وتسهيل عمليات غسيل الأموال.
كان لقانون محاسبة سوريا أثر بالغ على الاقتصاد السوري، حيث أدى إلى عزل النظام ماليًا وتقنيًا عن الأسواق الغربية، كما شكل سابقة في استخدام الولايات المتحدة العقوبات كأداة رئيسية للضغط على دمشق، وهو النهج الذي استمر لاحقًا وتصاعد بعد عام 2011.
العقوبات الأميركية بعد الثورة السورية (2011-2024)
مع اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، انتقلت الولايات المتحدة من فرض عقوبات جزئية ومحددة على سوريا إلى حزمة واسعة من العقوبات الشاملة التي استهدفت النظام السوري وداعميه الإقليميين والدوليين، في محاولة للضغط عليه لوقف قمع المتظاهرين وإجراء إصلاحات سياسية.
العقوبات الأولى (2011-2012): استهداف رموز النظام
مع تصاعد القمع ضد المتظاهرين، فرضت إدارة الرئيس باراك أوباما أولى العقوبات في أبريل/نيسان 2011، والتي استهدفت مسؤولين سوريين بارزين متورطين في انتهاكات حقوق الإنسان، كان أبرزهم:
- بشار الأسد، رئيس النظام السوري.
- ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري، والمسؤول عن الحملة العسكرية ضد المتظاهرين.
- علي مملوك، رئيس إدارة المخابرات العامة.
- عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن العسكري في درعا، والذي كان له دور بارز في قمع الاحتجاجات السلمية في بدايات الثورة.
تصعيد العقوبات الاقتصادية والمالية (2011-2013)
بحلول أغسطس/آب 2011، فرضت الولايات المتحدة حظرًا على قطاع النفط السوري، حيث تم:
- منع استيراد النفط السوري إلى الولايات المتحدة، ما أدى إلى خسائر كبيرة للنظام، إذ كانت العائدات النفطية تشكل حوالي 25% من إجمالي الناتج المحلي لسوريا قبل الحرب.
- تجميد الأصول المالية للنظام السوري والشركات المرتبطة به في الولايات المتحدة.
- فرض قيود على البنك المركزي السوري، مما زاد من عزلة النظام ماليًا.
- توسيع العقوبات لتشمل رجال الأعمال والشركات التي تقدم دعمًا ماليًا وعسكريًا للنظام.
توسيع العقوبات لاستهداف داعمي النظام (2012-2014)
- مع استمرار الصراع، توسعت العقوبات الأميركية لتشمل حلفاء النظام السوري، لا سيما روسيا وإيران، حيث تم فرض عقوبات على:
- شركات روسية متورطة في بيع الأسلحة والمعدات العسكرية لسوريا.
- كيانات إيرانية وفروع من الحرس الثوري الإيراني، والتي ثبت دعمها للقوات السورية بالمال والعتاد والتدريب العسكري.
قانون قيصر (2020)
دخل قانون قيصر حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 2020 ليشكّل نقطة تحول في نهج العقوبات الأميركية على سوريا، إذ فرض طوقًا اقتصاديًا غير مسبوق على النظام السوري وداعميه، سواء كانوا أفرادًا أو كيانات أو دولًا. استند القانون إلى وثائق وصور مسربة توثق انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان داخل السجون السورية، نُسبت إلى النظام السوري، ما عزز مسوغاته القانونية تحت غطاء حماية المدنيين ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية.
امتدت تأثيرات قانون قيصر لتشمل ليس فقط الدائرة المقربة من النظام، بل أيضًا كل من يتعامل معه اقتصاديًا أو عسكريًا. أدى ذلك إلى تفاقم عزلة النظام السوري، حيث أصبح أي استثمار أو تعاون اقتصادي مع دمشق محفوفًا بمخاطر العقوبات الأميركية. تأثرت القطاعات الحيوية، مثل النفط والطاقة والبناء، بشكل كبير، مما زاد من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد منذ اندلاع الحرب. كما طال القانون حلفاء دمشق، بما في ذلك شركات روسية وإيرانية، مما أدى إلى تعقيد علاقات النظام الخارجية، حتى مع أقرب حلفائه.
لم يكن لقانون قيصر جدول زمني محدد لإنهاء العقوبات، بل وضع شروطًا صارمة تتعلق بحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف العمليات العسكرية ضد المدنيين. رغم الدعوات الإقليمية والدولية لتخفيف العقوبات، فإن الولايات المتحدة استمرت في التمسك بالقانون كورقة ضغط على النظام السوري، مما جعل من الصعب على دمشق استعادة علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية بشكل طبيعي.
أدى القانون إلى تداعيات اقتصادية كارثية داخل سوريا، حيث تدهورت قيمة العملة المحلية، وارتفعت أسعار السلع الأساسية، وزادت معاناة المواطنين في ظل انهيار الخدمات والبنية التحتية. ورغم كل ذلك، لم يتمكن قانون قيصر من تحقيق تغيير سياسي جوهري، إذ بقي النظام في السلطة، مدعومًا من حلفائه الدوليين، فيما ظل السوريون يعانون من تداعيات العقوبات المفروضة عليهم.
قانون الكبتاغون (2022-2024):
في السنوات الأخيرة، تحول قانون الكبتاغون إلى أحد أكثر أدوات العقوبات الأميركية تأثيرًا في الضغط على النظام السوري، إذ سلط الضوء على دور دمشق في إنتاج وتهريب المخدرات، خصوصًا الكبتاغون، الذي أصبح مصدرًا رئيسيًا لتمويل شبكات النظام السابق.
تمت المصادقة على القانون على مرحلتين، الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2022، حيث أقر الكونغرس تشريعًا يهدف إلى تتبع وضرب شبكات المخدرات المرتبطة بالنظام السوري، ما شكّل اعترافًا رسميًا بالدور المحوري الذي تلعبه دمشق في اقتصاد المخدرات الإقليمي. وبعد ذلك، وفي أبريل/نيسان 2024، تم إقرار المرحلة الثانية، المعروفة باسم "الكبتاغون 2"، لتعزيز تطبيق العقوبات، عبر آليات أكثر دقة تستهدف الأفراد والشركات والكيانات المتورطة في تصنيع وتهريب المخدرات.
جاء هذا القانون ليؤكد تقارير أمنية واستخباراتية متعددة، أشارت إلى أن سوريا تحولت إلى المركز العالمي الأول لإنتاج الكبتاغون، حيث يتم تصديره إلى الأسواق الخليجية والأوروبية عبر طرق تهريب معقدة تشمل لبنان والأردن والعراق. كما وثقت التقارير تورط شخصيات بارزة في النظام السوري، بالإضافة إلى ميليشيات مرتبطة به، في هذه التجارة غير المشروعة.
لم تقتصر تأثيرات قانون الكبتاغون على دمشق فقط، بل طالت الدول والشبكات التي تتعامل معها، مما أدى إلى تضييق الخناق على تجارة المخدرات التي كانت تشكل مصدر دخل أساسي للنظام في ظل العقوبات الاقتصادية الأخرى.
الإعفاءات من العقوبات: موازنة الضغط والسياسة الإنسانية
رغم التشديد المستمر للعقوبات الأميركية على سوريا، حرصت واشنطن على إصدار إعفاءات محددة في ظروف معينة، إما لدواعٍ إنسانية أو لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية. هذه الإعفاءات لم تكن عشوائية، بل جاءت كأدوات موازنة بين الضغط على النظام السوري وتجنب التأثير السلبي على المدنيين أو الحلفاء الإقليميين.
أحد أبرز هذه الإعفاءات كان الإعفاء الجغرافي، الذي منح تركيا منذ عام 2019 حرية العمل الاقتصادي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لا سيما شمال سوريا، وذلك بهدف دعم الاستقرار في تلك المناطق ومنع النظام من الاستفادة منها ماليًا.
كما برزت الإعفاءات الطارئة، التي صدرت في أوقات الأزمات الإنسانية الكبرى. ففي ذروة جائحة كورونا، خففت واشنطن بعض القيود المتعلقة بتوريد الإمدادات الطبية والإنسانية إلى سوريا. وبعد زلزال فبراير/شباط 2023 المدمر، تم إصدار استثناءات تسمح بوصول المساعدات بشكل أسرع وأكثر كفاءة، استجابة للكارثة التي ضربت آلاف المدنيين.
أما بعد سقوط النظام، فقد جاء أحد أهم الإعفاءات متمثلًا في الرخصة 24، التي سمحت بالتعاون الاقتصادي مع الحكومة السورية الجديدة، مع الإبقاء على الحظر المفروض على وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات. شملت هذه الرخصة تسهيل المعاملات النفطية والكهربائية، وكذلك تحويل الأموال الشخصية، بهدف إعادة دمج سوريا في النظام الاقتصادي العالمي بعد فترة طويلة من العزلة.
رغم هذه الإعفاءات، لا تزال واشنطن تفرض قيودًا مشددة على أي تعاملات قد تعيد تنشيط اقتصاد النظام السوري أو تمنحه فرصة للالتفاف على العقوبات، وهو ما يجعل هذه الإعفاءات أداة تكتيكية أكثر من كونها تغييرًا جوهريًا في السياسة الأميركية تجاه سوريا.
الخاتمة
تمثل العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا أداة ضغط رئيسية في السياسة الخارجية لواشنطن تجاه دمشق. وعلى الرغم من الإعفاءات التي أُعلن عنها بعد سقوط النظام، فإن التحديات لا تزال قائمة أمام الحكومة السورية الجديدة، التي تحتاج إلى جهود دبلوماسية واقتصادية مكثفة لإعادة الاندماج في النظام المالي العالمي وإعادة إعمار البلاد.
وبينما تستمر العقوبات كأداة للضغط السياسي، فإن مستقبل سوريا يعتمد إلى حد كبير على مدى قدرة الحكومة الجديدة على تحقيق الاستقرار السياسي، والامتثال للشروط الأميركية والدولية، وفتح قنوات جديدة للتعاون الاقتصادي مع المجتمع الدولي.