مقدمة
منذ بداية الصراع السوري في 2011، شهدت منطقة الجولان السورية المحتلة توترات عديدة بين القوات الإسرائيلية من جهة والقوات السورية من جهة أخرى. مع تطور الأحداث العسكرية والسياسية في سوريا، بدأت إسرائيل بتوسيع نطاق تدخلاتها في جنوب سوريا، لاسيما بعد سقوط نظام الأسد في 2024. هذه التدخلات، التي بدأت بشكل متقطع، أخذت طابعًا مستمرًا في الأشهر الأخيرة، ما أثار تساؤلات عديدة حول أهداف إسرائيل من هذا التوغل وطبيعة العلاقة المستقبلية مع الحكومة السورية.
في 28 يناير 2025، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أن القوات الإسرائيلية ستبقى في جنوب سوريا إلى أجل غير مسمى. هذا التصريح جاء بعد سلسلة من العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في المناطق الحدودية الجنوبية من سوريا، في ظل غياب حكومة مركزية قوية بعد سقوط نظام بشار الأسد. يأتي هذا الوضع في وقت يتعرض فيه النظام السوري المؤقت لانتقادات بشأن قدرته على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، خاصة فيما يتعلق بالوجود العسكري الإسرائيلي.
الفصل الأول: التوغل الإسرائيلي في جنوب سوريا: التاريخ والمستجدات
خلفية تاريخية
تعود بداية التدخل الإسرائيلي في سوريا إلى عام 1967، حينما احتلت إسرائيل مرتفعات الجولان السورية خلال حرب الستة أيام. منذ ذلك الحين، أصبح الجولان نقطة توتر دائمة بين إسرائيل وسوريا، رغم اتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع بين البلدين في عام 1974. هذا الاتفاق أرسى منطقة عازلة بوساطة الأمم المتحدة لمنع أي تصعيد عسكري بين الطرفين.
ومع اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، تصاعدت المخاوف الإسرائيلية من إمكانية تحوُّل المنطقة إلى ساحة نزاع مستمرة، خاصة مع وجود جماعات مدعومة من إيران وحزب الله على مقربة من الحدود. لذلك، بدأ الجيش الإسرائيلي بزيادة تدخلاته العسكرية في سوريا، خصوصًا في المناطق الحدودية الجنوبية بحجة حماية أمن الجولان، وهو ما تطور ليأخذ شكل تواجد دائم منذ سقوط نظام الأسد في 2024.
العمليات العسكرية الإسرائيلية بعد سقوط الأسد
في 8 ديسمبر 2024، وبعد انهيار النظام السوري بشكل نهائي، دخلت القوات الإسرائيلية إلى الجنوب السوري، حيث بدأت بممارسة عمليات تمشيط واسعة النطاق في مناطق محافظة القنيطرة ودرعا. هذه العمليات استهدفت تدمير البنية العسكرية للمجموعات المدعومة من إيران وحزب الله.
واستمرارًا لتوسيع وجودها العسكري، قامت إسرائيل بإنشاء ست قواعد عسكرية في جنوب سوريا، خمس منها داخل المنطقة العازلة المحددة باتفاق عام 1974، وواحدة خارجها في منطقة كودنا. تركزت هذه القواعد في مناطق حساسة مثل تلول الحمر في شمال شرق حضر، قرص النفل شمال غرب حضر، جباتا الخشب في ريف القنيطرة الشمالي، بالإضافة إلى مناطق أخرى مثل سد المنطرة.
الفصل الثاني: أهداف إسرائيل من التوغل العسكري في جنوب سوريا
حجة ضمان أمن الجولان
تُعد حماية الجولان المحتل حجة إسرائيل الأساسية من التوغل العسكري المستمر في جنوب سوريا. و ترى إسرائيل أن وجود القوات العسكرية الإسرائيلية في المناطق الحدودية الجنوبية هو الضمان الوحيد لأمنها القومي. التصريحات المستمرة من المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم وزير الدفاع يسرائيل كاتس، تؤكد أن الجيش الإسرائيلي سيظل في المنطقة "إلى أجل غير مسمى" لضمان أن تكون "منطقة آمنة" خالية من أي تهديدات معادية.
تقويض النفوذ الإيراني في سوريا
إحدى الأهداف الرئيسية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من خلال تدخلاتها العسكرية في جنوب سوريا هي تقويض النفوذ الإيراني. تعتبر إسرائيل أن إيران وحزب الله يمثلان تهديدًا استراتيجيًا طويل الأمد في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بمحاولاتهما لبناء بنية تحتية عسكرية على مقربة من الحدود الإسرائيلية. لذلك، تستهدف العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب سوريا تدمير المرافق العسكرية الإيرانية وحزب الله، التي بنيت في عهد النظام السوري السابق.
الضغط على الحكومة السورية المؤقتة
مع سقوط النظام السوري، دخلت سوريا في مرحلة انتقالية مع الحكومة المؤقتة التي تولت زمام الأمور. إسرائيل ترى أن وجود الحكومة السورية الجديدة في مرحلة من الفوضى السياسية والعسكرية يمثل فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة. وبالتالي، فإن التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية يسهم في إضعاف الحكومة السورية الانتقالية وتجميد أي محاولة لاستعادة الأراضي المحتلة. إسرائيل تسعى إلى إدامة حالة من عدم الاستقرار السياسي في سوريا لاستغلالها كورقة ضغط مستقبلية في أي مفاوضات تتعلق بالتطبيع مع الدول العربية، ولا سيما المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.
الفصل الثالث: ردود الفعل السورية والدولية على التوغل الإسرائيلي
الموقف السوري
بعد تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي حول البقاء في جنوب سوريا إلى أجل غير مسمى، عبَّرت دمشق عن استيائها من الانتهاك المستمر لسيادتها. الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أبدى استعداد حكومته لتغطية المواقع الحدودية إذا انسحبت إسرائيل، مؤكدًا على ضرورة استعادة الأراضي السورية المحتلة وفرض السيادة الوطنية على كافة الأراضي السورية. وفي هذا السياق، أشار الدكتور فيصل عباس محمد، المتخصص في العلاقات الدولية، إلى أن الخيارات المتاحة أمام النظام السوري الجديد لمواجهة التوغل الإسرائيلي "محدودة جدًا". ورغم أن الحكومة السورية تقدمت بشكاوى للأمم المتحدة، فإن الفيتو الأمريكي من المرجح أن يمنع أي قرار يدعو إلى انسحاب القوات الإسرائيلية.
ردود الفعل الدولية
على الصعيد الدولي، أثار التوغل الإسرائيلي في سوريا ردود فعل متفاوتة. الأمم المتحدة كانت قد أعلنت معارضتها الشديدة للانتهاكات الإسرائيلية في الجنوب السوري، لكنها تبقى عاجزة عن اتخاذ إجراءات ملموسة بسبب التعقيدات السياسية وحق النقض الأمريكي في مجلس الأمن.
الفصل الرابع: الآفاق المستقبلية للتوغل الإسرائيلي في جنوب سوريا
استمرار التواجد الإسرائيلي
من المحتمل أن تستمر إسرائيل في توسيع تواجدها العسكري في جنوب سوريا، مع تعزيز قدرتها على منع أي تهديدات محتملة. في ظل وجود حكومات جديدة غير قادرة على مواجهة التهديدات الخارجية، قد تجد إسرائيل في هذا التوغل فرصة لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة.
ضغوط أمريكية على سوريا
مع التصريحات الأمريكية المتواصلة بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، قد تزداد الضغوط على الحكومة السورية الجديدة لإعادة التفاوض حول الجولان. هذه الضغوط قد تأتي عبر وسطاء خليجيين أو من خلال قنوات دبلوماسية أمريكية. في هذه الحالة، يمكن أن يستمر التوغل الإسرائيلي كأداة تستخدمها إسرائيل لتأمين المزيد من المكاسب السياسية.
الخاتمة
التوغل الإسرائيلي في جنوب سوريا يعد أحد التطورات العسكرية البارزة في المنطقة التي تعكس التغيرات الاستراتيجية التي تشهدها سوريا بعد سقوط النظام. إسرائيل، من خلال وجودها العسكري المستمر في الجولان وسوريا الجنوبية، تسعى إلى تأمين مصالحها العسكرية والإقليمية، وتقويض نفوذ إيران، وتعزيز موقعها السياسي في أي مفاوضات إقليمية مستقبلية. بالنسبة لسوريا، فإن الخيارات المحدودة التي تواجهها حكومة المرحلة الانتقالية تجعل من الصعب مواجهة التوغل الإسرائيلي، وهو ما يعكس الحالة الصعبة التي تجد سوريا نفسها فيها في ظل عدم الاستقرار السياسي والعسكري.