بعد كم النكسات والنكبات التي أصابت منطقتنا، وبعد مراجعة سريعة، لا بد لنا من قراءة دور ومساهمة جيش من "العلق الكلامي" اليومي الذي شكل رأياً عاماً على ضفتي الصراع، و"صرع" رؤوسنا بنظريات وفبركات كادت تصبح وقائع تاريخية وواقعية حتى ارتفع الموج ونكتشف أنها فقاعات سامة ضللت، عن قصد أو بجهل، يستوجب على الأقل ملاحقتها ومعالجتها وربما وقفها والقضاء عليها.
**
حادثة رقم 1: طلبت إدارة إحدى محطات التلفزة من منتج البرامج السياسية فيها أن يستضيف أحد وجهاء الأحياء في المدينة، وما إن حضر الضيف وأمام حيرة المقدم والمنتج من عناوين ومواضيع الحلقة، بادر أحدهم بالسؤال: ماذا تريد أن نضع لك تعريفاً؟ فنظر الضيف إليهما شزراً وأجاب بخفة المتمكن والعالم العارف: أُكتبْ “مفكر عربي”.
حادثة رقم 2: يتحفني صديقي “المحلل” يومياً بإرسال مواعيد إطلالاته الإعلامية اليومية، ببساطة الأمر “دويخة” كيف يرتب مواعيده بالتتابع وهو خلال نهاره كمن يقود سيارة “رالي” في الوصول الى الاستديوهات المتباعدة وبينها أحياناً المشاركة عبر تقنيات البث المباشر.
سؤال يؤرقني: متى يقرأ ويتابع الأحداث بعمق حتى يحللها؟
حادثة رقم 3: يعلو صراخ صديقي “المحلل” عندما تزركه بعض الأسئلة، ويطلب مسرعاً الإذن لدقائق للذهاب الى الحمام وهو بحقيقة الأمر يختلي بنفسه كي يهاتف أحد مراجعه عن موضوع النقاش كي يعرف ما هو الجواب الصحيح.
هذه المقدمة المضحكة المبكية لا يمكن تعميمها بالمطلق على الجميع، ولكن السؤال الأساسي لصانعي الاعلام يمنةً ويسرة: متى تتوقف هذه المهازل؟.
**
أولاً في مفهوم المصطلح: التحليل يعني قراءة الحدث من جوانب مختلفة (تاريخية، عوامل القوة والضعف، عوامل داخلية وخارجية، تأثيره على الوقائع وعلى المستقبل…..).
ويهتم المحلل السياسي بوجه عام بالحدث، وهدفه بالأساس إنارة الرأي العام، وإخباره بما يجري من وقائع في الحياة الإجتماعية أو السياسية أو الثقافية مع التوضيح قدر الإمكان والكشف عن الأسباب المباشرة التي تتحكم فيها.
وكي يكون المحلل ناجحاً يجب أن يتمتع بالصفات المعرفية الأولى من علم وخبرة ومتابعة، وكي يقدم المادة بصيغة معقولة من التحليل وعدم الشطط، خاصةً اذا كان على تماس مع الحدث وصانعيه.
ومن هنا يمكننا أن ننطلق بجولة على كوكبة المحللين، ومن نعم الدهر علينا كثرة محطات التلفزة وحاجتها لملئ الهواء ولو على حساب الموضوعية وصحة الأخبار والمعلومات وأحياناً ربما المسّ بكرامات الناس ومعتقداتها.
وبالعودة الى هذه “المهنة” نفسها فإنها لم تكن يوماً غريبة عن مجتمعنا، منذ سهرات القريّة والحكواتي وشاعر الزجل وحكايا السهرات، فيختلط الشعر بالقصة والآراء الشخصية والانفعالات والأساطير والعصبية العائلية والعشائرية وغيرها… .
هكذا يكون معظم محللينا، حكايا وترداد لمقولات جاهزة “وعلك حكي”، إذ متى وكيف سيتمكن المحلل الكبير من ترتيب أفكاره ودراسة الملف أمامه وقراءة الكتب – المراجع وسبر أغوار الملف، وهو يخرج من استديو تلك المحطة الساعة 12 ليلاً ليعود صباحاً الى المحطة المقابلة الساعة الـ 10 صباحاً متأبطاً رأيه السديد؟؟.
كيف للمحلل أن يرشق مشاهديه بـ 5 أو 6 مقابلات اسبوعية وأن يأتيهم بخبرٍ جديد؟ أو تحليل عميق ذات قيمة؟.
كيف للمحلل أن يدّعي المعرفة بمختلف الملفات وهو أصلاً يمضي الساعات في نقاشات ومحاورات داخل استديوهات مغلقة؟.
كيف لمحلل أن “يفرض” آرائه على جمهور واسع وهو أصلاً بحياته لم يكتب مقالاً أو تحليلاً في صحيفة أو كتاب أو على جريدة الحائط في المدرسة مثلاً؟.
كيف يمكن تقيّيم جدارة المحلل السياسي: الأكثر صراخاً، شتماً، استعمالاً للمفردات الأجنبية، الأسرع في الكلام من أصحاب “الإسهال اللفظي”؟ أم كل هؤلاء مجتمعين؟.
كيف لتحليلٍ أن ينطلق من قناعات راسخة لا تتزحزح، على خلفية حزبية او مذهبية دون أن تترافق مع الاثباتات العلمية، ويقدم نفسه لنا على أنه موضوعي.
وكي لا ننسى فإن هذا الجيش من المحللين وجد لخدمة الامؤسسات الحاكمة والمؤسسات الاعلامية (المحلية والإقليمية) وتعبئة هواءها بمخصصات مالية (ثمن المقابلة محدد بين الـ 50 دولار أميركي وقد تصل الى 400 دولار أميركي مقابل “الطلة” الواحدة).
الأمر أخطر من ذلك
بعد هذا العرض الكاريكاتوري الى حدٍ ما، لا بدّ من التأكيد على أن الأمر أخطر من ذلك بكثير وأن الأمور ليست بهذه البساطة والطبيعية، وبمتابعة للسياق العام فإن عدد لا يستهان به من المؤسسات ومراكز الدراسات، المحلية والأجنبية، قد وضعت استراتيجية واضحة لتشكيل الرأي العام، عبر خطين متوازيين:
الأول عبر تقنية الضخ اللامتناهي للأفكار المحددة عبر مجموعة من الأبواق في اتجاهٍ واحد وعلى فكرة واحدة.
ثانياً عبر جذب أبواق خصومها “الضعاف” وإبرازهم على شاشاتها كي تشوه وتسفه رأي الخصم.
ما يعني هنا أن مهنة المحلل تأتي في سياق استراتيجية ومصلحة المؤسسات الاعلامية في بث وترسيخ مشاريعها وأهدافها.
الأمثلة كثيرة على مشاريع وأحداث لا يسعنا ذكرها هنا لضيق المكان والزمان، وكيفية صياغة البروباغاندا المضللة والمفيدة، كيف أن الدعاية تعمل على تبييض صورة ناهبي البلاد والمصارف وحقول النفط وصولاً الى تتفيه وتسخيف أي مشروع انتاجي وطني وتسويغ تدمير المنتجات الوطنية من الزراعة والصناعة والفن والثقافة، مع شيطنة كل حركة مقاومة أو مواجهة للمشروع الاستعماري الكبير بمفردات وتعابير وجمل محددة.
باختصار، المُشاهد ضحية كل هذه الفوضى، وعملية غسيل الدماغ مستمرة على عدد تكات الثواني على مدار الـ 24 ساعة.
سابقاً قيل في وصف الكلام الغث والمضلل “حكي جرايد”، واليوم يجب تعديل العبارة الى “علكْ تلفزيونات”.
أخيراً
حادثة رقم 4: على أي أساس تختار المؤسسات الأمنية والسياسية والسفارات وأصحاب رؤوس الأموال وراسمي سياسات هؤلاء المحللين؟
ومن يحاسب هؤلاء على كم الأخطاء التي ارتكبوها بمعلومات وأضاليل نشروها وبعضهم لا يخجل من الظهور مجدداً على الملأ؟؟؟