كتب إياد الدليمي: العراق والبحث عن هوية نظام سياسي جديد

2022.08.16 - 11:48
Facebook Share
طباعة

يمكن القول إن النظام السياسي لعراق ما بعد 2003 تشكل بهوية مؤتمر لندن الذي رعته الولايات المتحدة نهاية عام 2002، أي قبل الغزو الأميركي للعراق بعدها بأشهر قلائل، جرى تفصيل هذا النظام على مقاسات القوى التي شاركت في المؤتمر المذكور، على الرغم من أن ديباجة البيان الختامي التي صدرت عنها، كانت مليئة بالعبارات والشعارات الوطنية التي منحت العراقيين فسحة حلم، ولو قصيرة، بعراق ديمقراطي خال من الحكم الشمولي، وبعيد عن التمييز وقائم على مفهوم دولة المواطنة.
هذا النظام السياسي الذي تبنّته تلك القوى التي شاركت في مؤتمر لندن سرعان ما تخلّت عن بيانها الذي صدر، وسرعان ما انقلبت على كل ما جاء فيه، بل سرعان ما بدأت تغيّر جلودها لتظهر بمظهرها الحقيقي، وتبدأ معها مرحلة انهيار متسارع لنظامها الذي شكّلته برعاية وحماية دوليتين.
ليس من المهم اليوم الحديث عمّا مضى بقدر حاجتنا له لفهم ما جرى بعد ذلك، نتحدّث اليوم عن مؤتمر لندن بوصفه المظلة التي اجتمعت تحتها قوى سياسية عراقية معارضة لنظام صدّام حسين، ومنها انبثقت صيغة عراق ما بعد نظام صدّام، ومنها أيضا بدأت أولى معالم هوية النظام السياسي الذي سيتشكل لاحقا، .. بعد 2003.
من السهولة بمكان العثور على كل مكامن إخفاق هذه القوى السياسية التي توافقت في لندن على شكل عراق ما بعد نظام صدّام وهويته، فهي منذ تسيّدت المشهد السياسي العراقي تسير به من سيئ إلى أسوأ، حتى وصلنا إلى لحظة الحقيقة، لحظة فراق الشركاء التي كانت بادية المعالم منذ سنواتها الأولى في حكم العراق، غير أن المصالح والمنافع والنفوذ، ناهيك طبعا عن أدوات الخارج وما لعبته بها، كلها كانت أسبابا تؤخر صدام الشركاء، شركاء الأمس أعداء اليوم.

هوية النظام السياسي التي شكلت بعد 2003 لا تعترف بصناديق الاقتراع، قدر اعترافها بالتوافقات والتفاهمات بين قواها السياسية

لم تكن ثورة تشرين التي انطلقت في مختلف الميادين والساحات العراقية في 2019 بمعزل عمّا سبق من ثورات وإرهاصات شعبية عراقية، بدأتها جماهير عراقية بالتزامن مع ثورات الربيع العربي في 2011، غير أن حكومة نوري المالكي آنذاك سرعان ما انقضت على الجموع، وتنكّرت لكل ديباجة بيان لندن وبعده الدستور العراقي الذي كتب في 2005، والذي منح للعراقيين حرية التظاهر وحرية التعبير. حتى إذا جاء العام 2013، تململ العرب السُنة بفعل المعاملة التمييزية والإقصاء والتهميش الذي تعرّضوا له، ولعام كامل كانت لهم مظاهرات واعتصامات سلمية، رفعوا خلالها شعاراتٍ أقل ما يقال عنها إنها شعارات مواطن يحلم بالعيش بكرامة، ولم يكن من بينها شعارات تطالب بإسقاط النظام، فكان ما كان من قمع وقتل واعتقالات لتأتي بعدها الصفحة الأكثر إجراما، والتي أقدمت عليها حكومة نوري المالكي بسحب القوات الحكومية من تلك المحافظات، لينفتح المشهد على دخول تنظيم داعش إلى تلك المدن، ويبدأ معها فصل جديد من القتل والترويع والتهجير والاستحواذ، وحتى التغيير الديمغرافي بحجّة محاربة "داعش".
ثم كانت تشرين 2019، يومها قتل من الشباب المنتفض قرابة 700 شاب وسجل نحو 27 ألف مصاب، قبل أن تستقيل حكومة عادل عبد المهدي، وتفسح المجال أمام حكومة مصطفى الكاظمي، تمهيدا لإجراء انتخابات مبكّرة تحت ضغط الشارع، فكانت انتخابات 2021 في أكتوبر/ تشرين الأول، ومن يومها والعملية السياسية في أزمة متواصلة، فلا الفائز تمكن من تشكيل الحكومة (التيار الصدري) ولا انسحابه من البرلمان مكّن البديل "الإطار التنسيقي" من تشكيل الحكومة، لينزل كلا الطرفين المتضادّين إلى الشارع، بحثا عن نصر يعتقدان أنه إن جاء من الشارع قد يمنحهما شرعية بعدما تيقن الجميع أن لا شرعية لأحزاب السلطة في العراق، حتى لو جاءت عبر صناديق الاقتراع، لأن هوية النظام السياسي التي شكلت بعد 2003 لا تعترف بصناديق الاقتراع، قدر اعترافها بالتوافقات والتفاهمات بين قواها السياسية.


يمكن أن يساهم استعصاء الحل بين قوى التيار الصدري والإطار التنسيقي في إيجاد طريق ثالث، تقوده نخب أكاديمية عراقية وقوى غير متحزّبة

اليوم الكل يفتش في جنبات الحلول عن هوية جديدة لنظام سياسي جديد، هوية لا يبدو أن العثور عليها سيكون رهنا بما يمتلكه العراقيون من خزين هائل من الغضب على هذه الطبقة السياسية الحاكمة، بقدر ما ستمليه عليهم الظروف الداخلية والخارجية.
داخليا، يمكن أن يساهم استعصاء الحل بين قوى التيار الصدري والإطار التنسيقي في إيجاد طريق ثالث، تقوده نخب أكاديمية عراقية وقوى غير متحزّبة، من قبيل منظمات المجتمع المدني، وإنْ أغلبُها بالنهاية تابع لبعض أحزاب السلطة. على هذه القوى أن تأخذ بزمام المبادرة، هذا طبعا في حال لم يتوصل "الإطار" و"التيار" إلى اتفاق، وبقيت الأزمة تراوح مكانها، وأن تستغل النخب الأكاديمية الفراغ الذي يمكن أن يحدُث أيضا في حال اضطرّت إيران لرفع يدها عن بعض جماعاتها في العراق، بسبب توقيعها على الاتفاق النووي بصيغته الجديدة مع الولايات المتحدة، والذي تضمّن نصا صريحا بخصوص نفوذ إيران في المنطقة.
نعم، قد يبدو الرهان على النخب الأكاديمية العراقية نوعا من الخيال، ولكنه يبقى أخفّ ضررا من ترك الأمور تنزلق إلى ما لا تُحمد عقباه، فهناك اليوم شخصيات ونخب أكاديمية عراقية ما زالت قادرة على أن تلعب دورا حاسما، ولو برعاية دولية، سواء من الأمم المتحدة أو من قوى دولية، وتأخذ على عاتقها مهمة إعادة تشكيل هوية سياسية للنظام العراقي، ولا بأس في أن تستعين هذه القوى بشخصيات دينية ذات تأثير، مثل شخصية المرجع الشيعي علي السيستاني، من أجل التوافق على صيغة حكومة وهوية سياسية جديدة تنقذ ما تبقى من البلاد، وتسحب البساط من تحت قوى وأحزاب ما زالت تحلم بأن يسمح لها المجتمع الدولي بمزيد من الوقت.

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن رأي كاتبه فقط

المصدر: العربي الجديد 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 10