كتبَ سليمان صالح: كيفية بناء علاقة جديدة بين التاريخ والسينما لحماية حقوق الجمهور

2022.08.06 - 04:57
Facebook Share
طباعة

 قامت السينما بدور مهم في تفسير التاريخ وتقديمه للمجتمع، ‏لذلك طور المؤرخون الأميركيون علاقاتهم بهوليود، ‏وشركات الإنتاج السينمائي لاستخدام العناصر السينمائية في تقديم الأحداث التاريخية للجمهور.

‏وكان من أهم الوظائف التي قام بها المؤرخون ‏تقديم الاستشارات لشركات الإنتاج السينمائي، ‏لكن هل يلتزم هؤلاء المؤرخون بالعمل على تقديم التاريخ بدقة في الأفلام السينمائية؟ ‏وهل يسهم ما يقدمونه من استشارات في إلزام شركات الإنتاج بعدم تزييف التاريخ واستخدامه في الدعاية والتلاعب باتجاهات ‏الجماهير، ‏أو أنهم شاركوا في عملية التضليل ‏والتلاعب باتجاهات الرأي العام التي قامت بها هوليود طوال القرن الـ20؟

‏الجمهور لا يعرف حقائق التاريخ!

تقول الباحثة مارني ماكارثي ‏في رسالتها للماجستير المقدمة ‏إلى قسم التاريخ بجامعة هيوستن عام 2013 ‏أن الجمهور في أميركا وكندا لا يملك المعرفة التاريخية، ‏ولم يهتم بدراسة التاريخ، ‏لذلك كانت السينما هي المصدر الرئيس الذي يحصل منه على المعرفة بالأحداث التاريخية، ‏ويشكل آراءه حولها وموقفه منها، وهذا يعني أن السينما لها تأثير كبير على الذاكرة الجمعية للشعب، ‏وعلى تشكيل خياله التاريخي.

‏في ضوء ذلك تزايدت الأصوات ‏المطالبة بأن تلتزم شركات الإنتاج السينمائي بالدقة والأمانة في تقديم الأحداث التاريخية وتفسيرها.

‏ومن هذه الأصوات الكاتب الأميركي جون فيدال ‏الذي يرى أن السينما تشكل "عقلية تاريخية مبسطة".

‏فماذا يعني ذلك المفهوم الجديد؟

المعرفة التاريخية التي يحصل عليها الجمهور من الأفلام السينمائية يتحدد هدفها في تشكيل عقلية الجمهور واتجاهاته ‏طبقا ‏لأهداف منتجي الأفلام، ‏وهي تقوم على القليل من الحقائق، ‏والكثير من وسائل التزييف والتضليل ‏غير المباشرة. ‏ولكنها في الوقت نفسه تكون مؤثرة، وتوجه الجمهور طبقا للأهداف التي تحددها ‏أجهزة المخابرات التي أدركت أهمية السينما في الدعاية والتلاعب باتجاهات الجمهور.

مراجعة التجربة السينمائية

لذلك شكلت ‏مجموعة من المؤرخين المهنيين ‏وموظفي الحكومة الأميركية لجنة لمراجعة تاريخ أميركا كما تقدمه الأفلام السينمائية. هذه اللجنة قامت بإجراء استطلاع على مستوى قومي حول كيف يدرك ‏الجمهور التاريخ، وركز هذا الاستطلاع على السينما والتلفزيون كوسيلة للحصول على المعرفة التاريخية.

‏وكانت نتائج هذا الاستطلاع ‏محورا لمناقشات واسعة تضمنها كتاب حرره ‏اثنان من أعضاء اللجنة هما روى روزنديج، وديفيد ثالين، ‏حيث أوضح الاستطلاع أن أفلام السينما ‏هي مصدر معرفة 50% ‏من الشعب الأميركي بالتاريخ.

‏تاريخ أم تسلية؟

‏يحذر المؤرخون الأكاديميون من خطورة ارتباط الأفلام التاريخية بالتسلية، ‏حيث أدى ‏ذلك إلى التقليل من الحقائق، ‏والاعتماد على الأحداث المثيرة التي تجذب المشاهد. يقول روزنستون: ‏"الفيلم ليس كتابا"، ‏والفيلم يحول التاريخ إلى خيال، ‏وقصته جذابة ومثيرة، ‏ولذلك يجب طرح سؤال مهم هو: ‏ما العناصر التي يقيم الجمهور الفيلم على أساسها، وهل يعتبر المشاهد الفيلم تسلية أو معرفة تاريخية؟

‏هذا يشكل مجالا علميا مهما يقوم على البحث ‏في تفضيلات الجمهور وعلاقتها بالوعي بالتاريخ، ‏وبنجاح الأفلام التاريخية في جذب الجمهور، ولكن لماذا لا تقدم السينما تصويرا أمينا للتاريخ؟

يجب الاعتراف بأن الفيلم حقا ليس كتابا، ‏وشركات الإنتاج ليست ملتزمة بتقديم التاريخ كدراسة علمية، ‏لكن هل يمكن أن تتخلى هذه الشركات عن التصوير الأمين للتاريخ بهدف جذب الجمهور بأحداث مثيرة ‏يتم إدخالها عنوة إلى التاريخ فتشوهه لتحقيق أهداف صُناع الفيلم؟

‏وإذا ‏كان الفيلم ليس كتابا، ‏وهو لا يلتزم بالضرورة بالأمانة في عرض الأحداث التاريخية، ‏فهل يمكن أن يكون مقبولا أن يتم تزييف وعي الجماهير وتضليلها ‏والتلاعب باتجاهاتها، ‏واستخدام الدعاية، ‏وبناء الصور النمطية، ‏وإثارة كراهية الجماهير ضد شعوب وثقافات أخرى؟

‏مناقشة حرة لتصوير السينما للتاريخ

تقديم السينما للتاريخ يحتاج حقا إلى مناقشة حرة ومتعمقة ‏يشارك فيها الأكاديميون وصناع الأفلام حول مدى التزام الأفلام بنقل المعرفة التاريخية بأمانة، ‏وعدم تزييف وعي الجماهير.

‏يرى منتجو ‏الأفلام أن السينما تقدم التاريخ بأساليب درامية تختلف عن النصوص الموجودة في الكتب، فهذه ‏الكتب موجهة للنخبة وليس للجماهير، وهذه الكتب هدفها التعليم وليس التسلية والترفيه، فكلاهما يخدم هدفا مختلفا تماما عن الآخر فمن الإجحاف وضعهما في مقارنة وفي قالب واحد.

‏كما أن الفيلم ‏يفرض رؤية المجتمع المعاصر للتاريخ، فهو ‏إعادة إنتاج حديثة للتاريخ، فالفيلم يقدم قصة خيالية تقوم على الأحداث التاريخية، ‏ولذلك يجب تقييم الأدوات والأساليب السينمائية في تقديم التاريخ وليس ما يقدمه من حقائق تاريخية، ‏فالمشاهد يكون واعيا بالمجتمع ‏المعاصر الذي يتم فيه إنتاج الفيلم، ‏والذي يقدم رؤيته الحديثة للتاريخ.

‏تصوير رومانسي بطولي للتاريخ

و‏ترى شركات الإنتاج السينمائي أن دورها هو تقديم تصوير رومانسي بطولي للتاريخ، ‏وأن الأفلام التاريخية يجب أن يتم تقييمها في السياق المجتمعي الذي ‏تم إنتاجها فيه.

ولا يمكن فهم أهداف صناع الفيلم وتقييمها إلا في ضوء فهم متطلبات المجتمع المعاصر، ‏فكل منتج فيلم له أجندة، ‏ولا تقتصر أهدافه على تحقيق الأرباح. لكن السؤال الذي لا خلاف عليه هو: هل يقدمون الحقيقة؟

كل منتج فيلم يريد أن يبني لنفسه صورة في أذهان الجمهور تقوم على أنه يقدم الحقيقة، ‏وأن القصة التي يصورها ‏يمكن تصديقها، ‏والثقة فيها. ‏لكن هل هذه الصورة التي يروج لها صناع الأفلام وشركات الإنتاج تتفق مع تاريخ السينما؟

تقول مارني ماكارثي: ‏إن هناك عناصر يجب أن نستخدمها في تقييم الفيلم التاريخي هي:

‏القصة والحبكة ‏والعقدة والشخصيات.

الأداء ويشمل تصوير المخرج والممثلين للحوار.

الإنتاج ويشمل: ‏الأزياء والمكياج ومواقع التصوير والإخراج بشكل عام، ‏وإخراج المَشاهد.

عدم الاقتصار على القصة والشخصيات

استخدام كل هذه العناصر يوضح أهداف صناع الفيلم، ‏والرسالة التي يريدون توصيلها للجمهور، وبذلك فإنهم يعيدون إنتاج الماضي.

وتختلف أحداث الفيلم عن الأحداث التاريخية التي يصورها المؤرخون في كتبهم، لذلك فإن ‏المؤرخين لا بد أن يأخذوا في الاعتبار كل العناصر السابقة عند تقييم الفيلم، ‏وعدم الاقتصار على القصة والشخصيات، كما أن تقييم هذه العناصر لا يتم فقط باستخدام المناهج العلمية، فهذه العناصر تحمل دلالات توجه الجمهور، ‏وتثير مشاعره وتدفعه ‏لاتخاذ مواقف من الأحداث.

‏يضاف إلى ذلك أن الفيلم ينتجه عدد كبير من الأشخاص، ‏يلعبون أدوارا ‏مختلفة في تصوير المواقف والأحداث والبيئة التي تتم فيها هذه الأحداث، لذلك فإن المؤرخين لا بد أن يقيّموا الفيلم التاريخي في ضوء فهم ‏هذه العناصر، ‏وكيفية استخدامها، ‏وما تتضمنه من دلالات يمكن أن تحمل رسائل للجمهور تؤثر على مشاعره واتجاهاته.

‏المؤرخون يركزون على القصة

ترى ماكارثي ‏أن مشكلة المؤرخين أنهم يركزون على القصة والأحداث عند تقييمهم للأفلام التاريخية، ‏وهم بذلك يقدمون تفسيرا ناقصا ‏للرسائل التي تتضمنها الأفلام، ‏لذلك لا بد أن يقوم النقاد ‏بتقييم الأفلام التاريخية بشكل كامل يأخذ في الاعتبار كل العناصر لكي يتم اكتشاف أهداف صناع الفيلم، ‏وإعادة بنائهم ‏للتاريخ في ضوء واقع المجتمع المعاصر.

‏إعادة بناء علاقة التاريخ بالسينما

وترى ماكارثي ‏أيضا أن مشكلة المؤرخين أنهم يفتقدون المعرفة بعملية الإنتاج ‏السينمائي، ‏إذ لا يقدمون نقدا للأفلام بشكل كامل، ‏لذلك فإن المجتمعات تحتاج إلى نوعية جديدة من المؤرخين المؤهلين لنقد الأفلام السينمائية التاريخية، ‏والمساهمة في تطويرها، ‏وبناء العلاقة بين التاريخ الحقيقي والتسلية.

‏ويجب أن يدرك المؤرخون أن الفيلم يصل لقطاع من الجمهور أكبر بكثير من النخبة التي تقرأ الكتب التاريخية التي يتم إنتاجها في الجامعات، ‏لذلك فإن السينما وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها في رواية التاريخ، ‏وهي الوسيلة التي يعتمد عليها الجمهور كمصدر للمعرفة التاريخية. ‏لذلك فإن إعادة بناء العلاقة بين السينما والتاريخ يمكن أن تشكل أساسا ‏لحق الجمهور في معرفة ‏التاريخ والمحافظة على الذاكرة الجمعية للشعب.

فالمؤرخون ‏لا بد أن يكون لهم دور في إلزام شركات السينما بحقائق التاريخ ‏وروايتها بدقة وأمانة وعدم تزييف وعي الجمهور بالتاريخ، ‏ونقد الأفلام السينمائية بشكل كامل وتقييم كل العناصر وما تحمله من دلالات ورسائل.

ولكن أين حق الجمهور في معرفة التاريخ؟

شركات الإنتاج السينمائي عليها واجب الالتزام بحق الجمهور في معرفة الحقائق التاريخية، ‏وعدم تزييف وعي الجمهور، ‏وعدم تحويل الأفلام التاريخية إلى دعاية لخدمة أهداف النظم السياسية، ‏وبناء الصور النمطية للشعوب، ‏وعدم إثارة الكراهية، ‏وزيادة الانقسام المجتمعي.

‏إن ذلك يشكل تحديا مهما ‏للمؤرخين وشركات الإنتاج السينمائي، ‏ومواجهة ذلك التحدي بدراسات علمية يمكن أن ‏تحمي الذاكرة الجمعية ‏للشعوب وحقها في معرفة تاريخها ‏دون تزييف ودعاية.

‏الفيلم ليس كتابا كما يرى السينمائيون، ‏ومن أهدافه تسلية الجمهور، ‏لكن الفيلم يجب أن يلتزم بالأمانة والحفاظ على الحقائق التاريخية لأن من حق الشعوب أن تعرف تاريخها، ‏وتتمتع بمشاهدته على شاشات السينما والتلفاز.

 

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 8