كتب أبو القاسم علي الربو: هل يصلح النفط في ليبيا ما أفسدته السياسة؟

2022.07.25 - 02:19
Facebook Share
طباعة

كانت ليبيا قبل اكتشاف النفط والبدء في تصديره، من الدول الفقيرة التي يعتمد اقتصادها على النشاطين الزراعي والرعوي. وفي العام 1958 زفّت بشرى اكتشاف النفط، وكان بمحض المصادفة، في أثناء حفر آبار لتوفير المياه لبعض المدن والقرى الليبية. حينها قال الملك إدريس مقولته المشهورة "أتمنّى لو أنكم عثرتم على المياه"، ربما لإدراكه بالمشكلات التي يمكن أن يجلبها هذا الاكتشاف، ولكنه كان على ثقةٍ، في الوقت نفسه، من الانتعاش الذي سيُحدثه، والذي سيكون إيجابيا على بلدٍ فقيرٍ يعيش على معونات الغير وصدقاتهم، وشعب كان يحتل صدارة القائمة الدولية لأفقر الشعوب، ما اضطرّ الحكومة آنذاك إلى تأجير قواعد عسكرية داخل الأراضي الليبية لكل من أميركا وبريطانيا للوفاء ببعض التزاماتها المالية.

أحدث هذا الاكتشاف ثورة اقتصادية، فوضُعت الخطط التنموية، ونُفّذت مشاريع اقتصادية كثيرة اعتمدت على العوائد المالية التي أصبح يدرّها هذا القطاع، وساهمت هذه المشاريع، بداية، في تحقيق حياة أفضل والانتقال تدريجيا من الفقر إلى حياة تتوفر فيها كل المتطلبات الأساسية، وساهم هذا في تحسين معيشة الليبيين بشكل ملحوظ وسريع.
استولى معمر القذافي على السلطة، واستمر في تنفيذ مشاريع تنموية، واستطاع، في بداية عهده، استكمال الخطط التي وضعت، والبدء في تنفيد كثير منها، فجرى التخلص من أكواخ الصفيح التي كانت منتشرة على مداخل العاصمة وفي ضواحيها. وعلى الرغم من الهدف الأمني من إنشاء شبكة طرق معتبرة، إلا أنها أدّت الى ربط بلد مترامي الأطراف يعد رابع أكبر بلد في أفريقيا، ويعادل سبعة أضعاف مساحة المملكة المتحدة.

رياح التغيير في ليبيا لم تأت بما تشتهيه السفن التي كانت تتوق إلى مجتمع سعيد مرفّه، يلتزم فيه المسؤول بالشفافية ونظافة اليد

لم يدم ذلك الاهتمام طويلا، حيث انتهج القذافي سياسات وممارسات قاسمها المشترك إهدار المقدرات الليبية، والعبث بالثروة الوطنية التي يشكل النفط أكثر من 95% من مصادرها، سياسات خضعت لمزاج القذافي المتقلب، فمن المحاولات العديدة لتحقيق الوحدة العربية إلى الكفر بكل ما هو عربي إلى مساندة تدخلات عسكرية في عدة دول، مرورا بدعم حركات التحرر والمنظمات القومية الموالية لأفكاره ونظريته التي أدّت، في بدايتها، إلى خسارة المليارات، ثم مليارات أخرى تعويضات عن ذلك، عندما رأى أن لا مفرّ من الرجوع الى "بيت الطاعة"، حتى لا يواجه مصير غيره ممن شقّ عصاها.
نجحت انتفاضة فبراير (شباط 2011) في إطاحة القذافي ونظامه بمشاركة جماهيرية، كان يحدوها الأمل في الاستفادة من ثرواتها، لتنهي وصفا انطبق عليها سنوات "دولة غنية وشعب فقير"، إلا أن رياح التغيير لم تأت بما تشتهيه السفن التي كانت تتوق إلى مجتمع سعيد مرفّه، يلتزم فيه المسؤول بالشفافية ونظافة اليد، قناعة أو خوفا من المحاسبة، من دون أن تُهدر هذه الثروات حسب مزاجه ورغباته. ومنذ العام 2011، مرّ إنتاج النفط بعدة تقلبات، فتوقف ووصل إلى الصفر، ثم عاد ليصل إلى المليون برميل يوميا في العام 2013، وكاد الإنتاج أن يتجاوز ذلك، لولا أن مسؤول حرس المنشآت النفطية في تلك الفترة، إبراهيم الجضران، لم يكن مزاجه على ما يرام، فقرر إقفال تصدير النفط، مدعيا أن حكومة علي زيدان كانت تبيع النفط بدون عدّادات، حسب اكتشافه المضحك المبكي.
في العام 2014 استلم مصطفى صنع الله مهام رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في العام 2014، في ظل الانقسام السياسي الذي كان مسيطرا في تلك الفترة، بقرار من وكيل وزارة النفط والغاز، والذي لقي استهجانا من الشارع الليبي لمخالفته القانون، إذ إنّ مهام الوكيل المكلف لا تعطيه الحق في تكليف بالمناصب القيادية، إلا أن صنع الله بقي في مركزه صامدا أمام كل محاولات الحكومات المتعاقبة تغييره، حيث استطاع إيهام الجميع بدعمه من المجتمع الدولي، خصوصاً حكومتي أميركا وبريطانيا.


ليس عسيراً على المتابع للوضع السياسي الليبي إدراك تبدل التحالفات والولاءات بشكل غير مسبوق، وبسرعة تفوق التوقعات

وقد شكّل صنع الله ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، ثنائياً استعصى لغزه على الحل، فقد شكّل كلّ منهما نفوذاً ومراكز قوى و"لوبي" داخل أروقة صنع القرار، حتى أصبحت كلّ الحكومات المتتالية تتعامل مع وجودهما واقعاً يجب الاستفادة منه، فكان للزيارات الخارجية والصور التي يلتقطها كل منهما مع المسؤولين وسفراء الدول الكبرى، والتي ما فتئا ينشرانها على وسائل الإعلام، بمناسبة أو بدونها، الأثر الذي يريدانه، ليس فقط في المحافظة على البقاء في مناصبهما، بل ومحاولة الحكومات كسب ودّهما، طمعا في تحسين صورة "هذه الحكومات" لدى الإدارتين الأميركية والبريطانية، وربما الفوز برضاهما.
في كل حال، ليس عسيراً على المتابع للوضع السياسي الليبي إدراك تبدل التحالفات والولاءات بشكل غير مسبوق، وبسرعة تفوق التوقعات، إما لتصفية حسابات أو لتسجيل نقاط أو إشهار مزايدات، ففجأة، وبدون مقدمات، يصبح عدو الأمس كأنه ولي حميم، خصوصا إذا ما أمرت بذلك إحدى الدول الفاعلة. وعلى الرغم من أن تبدّل المواقف والاصطفافات لدى متصدّري المشهد لا يحتاج إلى دليل، فإنّ إقالة صنع الله ستظل شاهدة على عدم وجود أي ثوابت، وأن لا أحد سيكون في مأمن من أن يكون ضحية هذه الاصطفافات، مهما قدّم من فروض الولاء والطاعة.
سافر صنع الله لتأدية فريضة الحج، وكله ثقة في أن الوضع الذي أبقاه على رأس المؤسسة أكثر من ثماني سنوات ما زال كما هو، لا سيما أن اختلاف السلطتين التنفيذية والتشريعية، والذي كان عاملا مهما في بقائه، لا يزال على أشدّه، سافر وهو لا يدري أن عاصمة عربية سترعى اجتماع "عائلتين" تتقاسمان السلطة في ليبيا في محاولة للاتفاق في ما بينهما، وهو الذي ظل يجني منافع اختلافهما سنوات، فقد وردت تقارير عن لقاء إبراهيم الدبيبة، ابن أخ رئيس الحكومة ومستشاره الخاص، وصدّام حفتر الذي لا يُعرف عنه سوى أنّه نجل خليفة حفتر، لقاء وصفقة راح ضحيتها صنع الله الذي لم تسعفه سرعة رجوعه من الحج بفعل شيء، فيبدو أنّ "السيف سبق العذل" في اجتماع استوجبته مصلحة عدة أطراف، فحفتر يحتاج المال، فهو مدين للدولة التي رعت الاجتماع، وهي تدرك عجزه عن السداد بدون هذه الصفقة، أما الدبيبة فبقاؤه في السلطة لن يتم إلا باقصاء غريمه فتحي باشا آغا، ومحاولة تفكيك تحالفه مع خليفة حفتر الذي لا يزال يشكل عامل قوة، لاسيما في المنطقة الشرقية. الجميع سيستفيد، الإمارات ستتحصل على ديونها ومعها "حلاوة" وحفتر سيتمكن من حل كل مشكلاته المالية العالقة، وسيتحصل على أموالٍ تكفيه تعب تصدير الخردة والنحاس من الموانئ الشرقية، والدبيبة سيستمر في منصبه، من دون ان يقضّ مضجعه مجلس النواب أو التحالف بين باشاغا والمنطقة الشرقية. والخاسر الوحيد هو صنع الله الذي أطاحه تحالف المال والسلطة.

تفاهمات واصطفافات وتغيرات ستلقي ظلالها على كل متصدّري المشهد، ولعل جديدها أخيرا زيارة رئيس أركان القوات المسلحة في شرق البلاد

وعلى غرار جل المسؤولين في ليبيا، رفض صنع الله تسليم المؤسسة، معتبرا قرار تنحيته باطلا ومخالفا للقانون الليبي، حيث توجّه بكلمة متلفزة، لاقت سخرية واسعة من كثيرين، وصف فيها رئيس الحكومة الذي كان يتعامل معه قبل قرار الإقالة بانه منتهي الولاية، مذكّرا بالحكومة الشرعية التي شكّلها البرلمان أخيرا برئاسة باشاغا. أما اتهام الغير بالفساد فلم يكن سابقة، ولن يشكل استثناء، فحاله كغيره من المسؤولين، ما أن يُقال من منصبه حتى يستيقظ ضميره، ويتحدّث عن فساد بالملايين، فتناول صنع الله ما سماه فساد الدبيبة وعائلته وبيعه المؤسسة الوطنية للنفط إلى الإمارات، وذلك في مقابلة إذاعية أثارت تساؤلات ليبية: لماذا الآن؟ ولماذا لم يتحدّث عن هذا الفساد من قبل؟
في الختام، يبدو أن تفاهمات واصطفافات وتغيرات ستلقي ظلالها على كل متصدّري المشهد، ولعل جديدها أخيرا زيارة رئيس أركان القوات المسلحة في شرق البلاد، عبد الرزاق الناظوري، مطار معيتيقة في طرابلس، وكان في استقباله، رسميا، وعلى البساط الأحمر، رئيس الأركان العامة في غرب البلاد، محمد الحداد، حيث لم يعد الأول ممثلا "لمجرم الحرب حفتر"، عميل روسيا، الذي دمر طرابلس، ولم يعد الثاني "عميلا تركيا تحرّكه أجندة الإخوان المسلمين وتدعمه قطر".
علاقات تتغير حسب الظروف وحسب المصالح، ولا شيء ثابت سوى حال المواطن الليبي الذي يدفع الثمن في الحالتين، فلا اتفاقهم سيحل مشكلاته، ولا اختلافهم سيحسّن وضعه، فهو يخوض معركة بقاء يومية في وجه الأزمات اللامتناهية. وبات اليأس السمة الأبرز في حياته، فلا المسؤول السابق اهتم بحالته، ولا الحالي سيكون أفضل من سابقه، ولا القادم سيكون مختلفا عنهما. ومع هذا يظل يتابع الوضع، وبدون اهتمام، ويتساءل: هل سيكون النفط قادرا على إصلاح ما أفسدته السياسة وما خرّبه العناد؟

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن رأي كاتبه فقط

المصدر: العربي الجديد 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 10