كتبَ هاني بشر: السينما كوسيط للفلسفة وأسئلة القضايا المصيرية

2022.07.15 - 04:20
Facebook Share
طباعة

 يشير مدير صالة قمار بسبابته إلى أحد الموظفين موبخا ومهددا، بعد أن أخفق في حل مسألة رياضية، ثم يطرح مسائل أخرى على 3 موظفين آخرين، ليختبر مهاراتهم العقلية ويحثهم على أن يعملوا لديه وكأنهم يمارسون هواية، وليس مجرد وظيفة. لا يتسامح المدير الحازم مع لون جورب أحد موظفيه أو حتى طول أظافره، ولم ينل إعجابه سوى موظف جديد جاء ليدبر بعض المال لإتمام زواجه، وأظهر تفوقا في مهامه، لكنه يرتكب كثيرا من الأخطاء في أثناء عمله. وحين يحاول هذا الموظف الاستقالة، يباغته المدير بأنه كان على علم بكل ما يفعل وأنه يسيطر على أفعال وحركات الجميع بمن فيهم الموظف نفسه، كل هذا في فيلم "الريس عمر حرب" بطولة الممثل الراحل خالد صالح وإخراج خالد يوسف.

يعد الفيلم أحد المحاولات العربية لتجسيد قصة "فاوست"، الحكاية الفلسفية الألمانية الشهيرة، التي تعبر عن قضية فلسفية مهمة عن علاقة الإنسان بالشيطان ومستويات تعامل الإنسان مع الغواية والشهوات المختلفة من مال وجنس وجاه. و"فاوست" أهم الأعمال الأدبية للفيلسوف الألماني يوهان غوته، وهي مسرحية تراجيدية نُشر الجزء الأول منها عام 1808، ولم ينشر الجزء الثاني إلا بعد مرور 26 سنة في عام 1831. وتدور حول حكاية شعبية عن شخصية فاوست الذي يجسده غوته في شكل طبيب حاز على قسط وافر من العلم والمال في حياته، غير أنه سُلب الطمأنينة والرضا، فقرر أن يتجه إلى السحر، ومن بعده إلى الشيطان ليعقد معه مقايضة يبيع فيها روحه مقابل أن يمنحه الشيطان السعادة.

تناول كثير من الأفلام القصص التي تناقش قضايا وموضوعات فلسفية، كما حاول بعضها أن يخوض تجربة إنسانية وليس إبداعية فقط، مثل الفيلم الأميركي "صبا" (Boyhood) للمخرج ريتشارد لينكلايتر الذي يدور حول قصة صبي (7 أعوام) لأبوين مطلقين، حيث يعيش المشاهد معه فكرة الزمن وتطوره وتأثيره على الطفل. والزمن هنا ليس مجازيا بل حقيقيا، إذ استغرق تصوير الفيلم 12 عاما من 2002 وحتى 2012. أي أننا نرى التطور الإنساني البشري الذي يعتري حياة الفتى من حيث الشكل والسلوك بطريقة فيها من التلقائية أكثر من التمثيل. وهي مشاهد كانت حكرا على الأفلام الوثائقية الجمالية التي تتتبع شخصيات على مدار زمني واسع، وليست لها جماهيرية الفيلم السينمائي الروائي. والزمن هنا هو أحد القضايا والمشكلات التي أرقت الفلاسفة قديما وحديثا، حيث يستعرض الفيلم جانبا من فكرة الوقت وتأثيرها بشكل يمزج بين الواقع والخيال.

كما تعد الرياضيات أيضا قضية فلسفية هامة نالت اهتمام الفلاسفة منذ القدم، وخاصة أفلاطون وأرسطو. وقد حاول الفيلم البريطاني "الرجل الذي عرف اللانهاية" مناقشة فلسفة الرياضيات، بل واستحضار الجانب الجمالي فيها عبر رصد السيرة الذاتية لعالم الرياضيات الهندي سريامينافا رامانوغان. وقد وضع المخرج والمؤلف ماثيو براون هذا الهدف نصب عينيه منذ البداية، لدرجة أنه افتتح الفيلم بهذه العبارة للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل: "إذا نظرت إلى الرياضيات بشكل صحيح، فإنك لن تملك الحقيقة فحسب، بل ستملك الجمال الأسمى".

الفلسفتين الغربية والعربية على الشاشة

إن قضية علاقة الفلسفة بالسينما تتشابه إلى حد بعيد بجدل النظريات الفلسفية ذاتها، فالنقاش فيها واسع ومتشعب. وما يهمنا في هذا المقام هو التركيز على محورين أساسيين؛ هما دور القصة الفلسفية في السرد السينمائي خصوصا في الأفلام العربية، وثانيا هي كيف تكشف لنا السينما عن قضايا مهمة لا تزال عالقة لدى المشاهد العربي وتسهم في إيجاد بعض الحلول والإجابات عنها. وينبغي هنا التنبيه إلى أن العلاقة بين السينما والفلسفة هي طريق ذو اتجاهين كما يقول المؤلفان داميان كوكس ومايكل ليفين في كتابهما "السينما والفلسفة: ماذا تقدم إحداهما للأخرى"، الذي يكشف عن اندماج السينما والفلسفة في مجال واحد يشهد استقلالية ونموا، وهي قضية قد تحتاج إلى نقاش منفصل.

على صعيد القصة الفلسفية نجد أن قصة فلسفية مثل حي بن يقظان، للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، كانت ملهمة بشكل أساسي لعديد من الأفلام الغربية وليست العربية، مثل أفلام كلاسيكية قديمة كفيلم "كتاب الأدغال" للمخرج وولفغانغ ريثرمان عام 1967، وفيلم "مغامرات طرزان الجديدة" للمخرج إدوارد كول عام 1935، وأيضا بعض الأفلام الحديثة مثل "المنبوذ" من بطولة توم هانكس عام 2000.

وتدور قصة بن يقظان بشكل رئيسي حول فتى اسمه حي بن يقظان ينشأ في جزيرة معزولة تماما عن عالم البشر ويتربى وسط الحيوانات. ورغم ذلك، يستطيع أن يميز نفسه عنهم مع الوقت ويدرك ملكاته العقلية. وقد تناول القصة ذاتها فلاسفة مسلمون، مثل ابن سينا والسهروردي. وتعكس القصة معاني عميقة حول جوهر الوجود الإنساني وبداية الخلق والهدف من الحياة والعلاقة مع الكون.

لم تستقِ السينما العربية النماذج والقصص الفلسفية المبثوثة في التراث العربي والإسلامي، فهو ليس غني بها فحسب، بل إنه صاحب قصب السبق فيها أيضا. وهنا لا نتحدث عن سينما عربية تحقق طفرات واسعة من دون إمكانات مادية ومعنوية كبيرة، لكن نتحدث عن غياب، بوعي أو بدون وعي، القصة الفلسفية المتاحة في التراث التي ألهمت كثيرا من المخرجين الغربيين.

المسألة الثانية تتعلق بدور الفلسفة في صياغة هوية عربية للسينما؛ فجوهر الأسئلة الفلسفية يفتح آفاقا من الوعي لمشاكل شعبية وجماهيرية مع فن السينما بشكل عام من قبيل: هل تجيب السينما بشكل مباشر عن أسئلة الدين والأخلاق والسياسة وكل القضايا المطلقة والنسبية؟ أم أنها تعيد وتجدد التساؤل حول هذه القضايا مثيرة المزيد من النقاش؟ وهل يمكن المزج لدى المشاهد العربي الذي يتمتع بعاطفة جياشة بين الدور الشعري والجمالي للسينما في مقابل الدور العقلاني للفلسفة؟ وهذه ليست أسئلة نظرية بقدر ما تصب بشكل مباشر في علاقة السينما بالجمهور العام وتؤثر على نوعية الأفلام وشعبيتها.

لا يمكن القول إن هناك قواعد ثابتة في هذا المجال لنستطيع أن نقول إن مجتمعا من المجتمعات ضد الفن أو معه، حسب ما يوصم المجتمع العربي في كثير من الأحيان. فالحكم العاطفي على كثير من الأمور -الذي يُنظر به عادة للمشاهد العربي- يعد ميزة في المجال الفني إذا تم إدراكه والتعامل معه. فهذا المجتمع ليس بدعا من المجتمعات؛ ففي ألمانيا مثلا نشأت حركة "العاصفة والاندفاع" في أواخر القرن الـ18، وكانت تهدف للانتصار للقلب والعاطفة في مقابل العقل. والعقل وقتها كان يمثل النزعة التنويرية في ألمانيا، التي كانت تمجد العقل والإنسانية. وقد انعكست هذه الحركة على الفن أيضا ودعت إلى إطلاق العنان للمشاعر وتجاوز القواعد الكلاسيكية، وكان من أبرز المتأثرين بها فلاسفة مثل فريدرك شيلر، ويوهان هيردر، وأيضا يوهان غوته نفسه.

 

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 10