كتب جيرار ديب: المعيار والميثاقية لعنة لبنان الحديث

2022.07.12 - 02:02
Facebook Share
طباعة

يحيط الجمود بالملف الحكومي في لبنان، حيث من غير المتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة أي حركة تكسر ستاتيكو الواقع القائم، والذي فرض نفسه بعد اللقاء الثاني الذي جمع الرئيس ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي.
لم تكن عقد التأليف وتشكيل الحكومات في لبنان بعد عام 2005 دستورية، بقدر ما أنها استجدّت بعد عودة الثنائي المسيحي (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية) إلى الساحة السياسية، وتشكيل ثنائي شيعي يولي اهتمام طائفته فوق كل اعتبار وطني، وتشتّت سني واضح في الالتفاف حول زعامة موحدة، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخجل درزي بعد فشله في لعب دور "بيضة القبّان" بين الأطراف المتنازعة على السلطة، لا على إخراج البلاد من محنته.
الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدّد شكل الدولة في لبنان، صدر في 23 مايو/ أيار 1926 في أثناء الانتداب الفرنسي، بعد إقراره في مجلس الممثلين. حيث أعلن عن قيام الجمهورية اللبنانية، بعد أن كانت تسمّى، منذ بدء الانتداب، دولة لبنان الكبير، وأصبح الدستور السلطة القانونية الأعلى التي تحدّد صلاحية السلطات، وتكرّس مبدأ الفصل بينها.
يرى الفيلسوف، شارل مونتسكيو، واضع كتاب "روح القوانين"، أن الدولة يجب أن تقوم على ثلاث سلطات: تشريعية تقرّر القوانين والنظم، وتنفيذية تتولّى إدارة الدولة من خلال هذه التشريعات، وقضائية تضمن سلامة القوانين ومطابقتها الدستور، فبرأيه تتطلب استمرارية الدولة الفصل بين صلاحيات هذه السلطات، إذ لا تتدخّل الواحدة بالأخرى، كما أن القانون ليس منزّلًا بحسب زعمه، ولكنه يخضع للتعديلات في موادّه بما يتناسب مع المتطلبات المستجدّة.

الميثاقية ليست نصًا مكتوبًا، بل روحية يجب العمل عليها واعتمادها في الحياة السياسية

صحيح أن مونتسكيو اعتبر من أبرز المتنوّرين الذين رسموا معالم الدولة العصرية والحضارية على أسس قانونية، إلا أنّ طروحاته هذه اصطدمت في لبنان بواقعٍ مرير، مبنيٍّ على تدخلات مسؤوليه وتخطيهم المواد الدستورية، من خلال تكريسهم أعرافا (كالمعيار في تشكيل الحكومة وميثاقيتها) باتت في مرتبةٍ أعلى من الدستور.
استباحت المصالح العليا للطوائف والمذاهب القانون، فأصبح البلد في مهبّ رياح الأزمات المستمرّة، تحديدًا في عهد الرئيس ميشال عون. مسؤولو لبنان يضربون بالمواد الدستورية عرض الحائط، غير آبهين بما تنص عليه تلك الموادّ وما تقرّره القوانين، يكرّسون أعرافًا دونكيشوتية ذات طابع طائفي ضيق، من دون أخذ بالاعتبار ما يعيشه البلد من انهيار على كل الصعد. لهذا حوّلوا لبنان إلى "دولة رخوة"، بحسب تعبير الاقتصادي السويدي، غونار ميردال، الذي يعتبر أن "المسؤول في هذه الدولة يضع القوانين ولا يطبّقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، بل لأنّه لا يحترمها".
لا يكاد يمرّ يوم في لبنان من دون أن يتردّد على مسامع اللبناني مصطلح الميثاقية والمعيار بين صولات الرئيس المكلف وجولاته إلى قصر بعبدا، وعلى ألسنة الكتل النيابية في كل لقاءاتهم، فهما الشرطان الأساسيان اللذان يجب تطبيقهما كي تبصر الحكومة النور، فالميثاقية ليست نصًا مكتوبًا، بل روحية يجب العمل عليها واعتمادها في الحياة السياسية، وهي تهدف إلى عدم تغييب أي مكوّن طائفي في التمثيل الوزاري. هي واقع ملموس على الأرض، قبل أن تدخل حيز الأعراف الموازية للنصوص الدستورية، هي الميثاقية عبر الانتقائية، وهي أصبحت بمثابة (Menu a la carte) أي اختيار حسب الطلب، يستخدمها بعضهم وفق ما تمليه عليه مصالحه، وحيث يجدها ضروريةً في مكان ومنتهية الصلاحية في مكان آخر.
أما مصطلح "المعيار الموحد" لتشكيل الحكومة، فهو حديث العهد، ترافق مع فكرة العهد "القوي" الذي وضع نفسه في موقع المدافع عن حقوق المسيحيين في لبنان. حيث رفض رئيس البلاد التوقيع على تشكيل حكوماتٍ لا تراعي فيها مبدأ تطبيق المعيار على كل الطوائف، أي على الرئيس المكلف اعتماد معيار واحد يطبّقه في اختياره وزراء الطوائف، فإن أراد إسناد وزارة أساسية للطائفة السنّية، عليه حتمًا إسناد وزارات أساسية للطوائف الأخرى، وهكذا.


يمرّ لبنان اليوم في أزمة اقتصادية هي الأصعب منذ تأسيسه، ما يجعله أحوج إلى تشكيل حكومةٍ تحاكي تحدّيات المرحلة

تقوم "المعيارية"، تلك البدعة التي تمّ اختراعها، على اعتماد معيار واحد في توزيع الحقائب الوزارية، أي إنّ الرئيس المكلف، إن قرّر عدم توزير من المحازبين لهذا الفريق يجب أن يطبّق قراره ذلك على الأفرقاء كافة.
ليس من السهل تشكيل حكومة في لبنان الحديث، لهذا يجد الرئيس المكلف، نجيب ميقاتي، صعوبة في تأليف حكومته العتيدة بعد استقالة حكومته "معًا للإنقاذ". زادت العقبات أمامه في عملية التأليف، من تأمين الميثاقية التي عطّلت تشكيل حكومات في لبنان، وجعلت أكثر من نصف عهد عون بحكومات مستقيلة، إلى المعيار الموّحد الذي يجد فيه فريق العهد وسيلةً لتحسين شروط التمثيل في الحكومة.
يمرّ لبنان اليوم في أزمة اقتصادية هي الأصعب منذ تأسيسه، ما يجعله أحوج إلى تشكيل حكومةٍ تحاكي تحدّيات المرحلة، في مقدمها ترسيم الحدود مع العدو الإسرائيلي، استكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، التحضير لمرحلة انتخاب رئيس للجمهورية، حيث من المفترض بالرئيس عون أن تنتهي ولايته في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
بدأت التسريبات تخرج من دوائر القرار أنّ لا نيّة في تشكيل حكومة جديدة، مع اقتراب انتهاء ولاية عون، كي لا يعطى لعون وتياره ثقل وازن في الحكومة التي من المفترض أن تمسك زمام الأمور في البلاد بعد التوّجه إلى "فراغ على مستوى الرئاسة الأولى" بعد انتهاء مهلة عون، إذ إنّ الاستحقاق الأهم هو التحضير لانتخاب رئيس للبلاد في ظلّ فتاوى دستورية تجيز "لحكومة مستقيلة" إدارة شؤون البلد في ظلّ فراغ رئاسي.
أخيرًا، مهما تعدّدت أسباب عدم تشكيل الحكومة، بسبب التمسّك بالميثاقية والمعيار الموحد ستبقى لعنة لبنان الحديث، فهي حجر عثرة أمام نهوض هذا البلد في ظلّ انهياره السريع.

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن كاتبه فقط

المصدر: العربي الجديد 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 5