كتبَ هاني بشر: سينمائيون واعدون بلا سينما في السودان

2022.07.06 - 06:24
Facebook Share
طباعة

 يبدأ جمع من الشباب خلع ملابسهم قبل القفز في النهر في مرح طفولي، تتناثر قطرات الماء ورغوات الصابون على جباه ورؤوس العمال السودانيين الذين يلوذون بالنهر من أجل الاستحمام وأخذ قسط من اللهو بعد يوم طويل في العمل في سد مروي بشمال السودان. واحد من هؤلاء لا يشاركهم السباحة والمرح ويجلس في برج معدني مطل على النهر يتحدث في هاتفه المحمول؛ هو أبو سلمى القادم من دارفور، أحد أفراد العمالة الموسمية الوافدة لأغراض الشغل اليدوي، يعمل كل ليلة سرًّا على تشييد بناء مصنوع من الطين والخشب والبلاستيك في فيلم "السد" الذي عرض في مهرجان "كان" في دورته الماضية عام 2022 من إخراج المخرج اللبناني علي شري.

تسير أحداث الفيلم وفي خلفيتها تظهر الثورة السودانية 2019 التي يتابعها العمال من خلال الإذاعة والتلفزيون كحدث هامشي في حياتهم المزدحمة. وهي إشارة رمزية للدلالة الفلسفية والسياسية التي يحاول المخرج أن يوصلها للمشاهد من خلال قصة أبو سلمى؛ فالفيلم هو الثالث في ثلاثية الأرض التي بدأها المخرج عبر فيلم "القلق" عام 2014 عن كوارث الزلازل في لبنان، ثم فيلم "الحفار" عام 2015 عن قصة العامل الباكستاني سلطان ذيب خان الذي يعمل حارسا لموقع مقبرة من العصر الحجري في موقع أثري يقع في إمارة الشارقة.

يستنطق المخرج اللبناني عناصر التراب والماء والنار في أفلامه الثلاثة ليجيب عن سؤال يتعلق بكيفية تسلل العنف إلى الأرض والأجساد كما يقول، وذلك عبر التدقيق المكثف في تفاصيل المكونات البسيطة في الحياة لتفكيك حقيقة العلاقات السياسية والاقتصادية والجغرافية والكشف عن مكنونها. وكان السودان محطته الثالثة والأخيرة حين اندلعت الثورة السودانية أثناء وجوده هناك فحوّلت مجرى العمل بالكامل، وهو تحول حدث مع كثير من السينمائيين السودانيين الذين منحتهم الثورة فرصة للتعبير عن أنفسهم سينمائيا وإن كانت محاولاتهم السينمائية قد بدأت قبل الثورة.

كان فيلم "ستموت في العشرين" للمخرج السوداني أمجد أبو العلا أول ما لفت الأنظار إلى السينما السودانية عام 2019 وحملها إلى الترشيح لجائزة الأوسكار لأول مرة عام 2020، ثم بعد ذلك حازت شبكة "نتفليكس" على حقوق عرضه وبثته ضمن أفلامها. وهو فيلم جدير بالمشاهدة؛ ليس فقط من أجل جماليات الإخراج والتصوير الذي أحال واقع قرية سودانية إلى لوحات بديعة، ولكن لانسجام القصة مع التراث الديني والمحلي السوداني، الأمر الذي جعل منه بانوراما ثقافية جسدت الروح السودانية. وللمفارقة، فإن عنوان الفيلم يحمل دلالة تاريخية مهمة للسينما السودانية، إذ إنه أول فيلم روائي طويل يُنتج في البلاد منذ أكثر من 20 سنة.

حازت أيضا أفلام سودانية كثيرة جوائز دولية وشاركت في مهرجانات دولية، مثل فيلم "الحديث عن الأشجار" للمخرج السوداني صهيب الباري، الذي حصد جائزة "غلاسوته أوريجينال" للفيلم الوثائقي في مهرجان برلين السينمائي عام 2019، وتتناول قصته رحلة 4 مخرجين أصدقاء سودانيين درسوا السينما في الخارج في الستينيات والسبعينيات وأسسوا جماعة الفيلم السوداني بعد عودتهم ويحلمون بإعادة فتح دار سينما قديمة وإقامة عرض سينمائي جماهيري في الخرطوم.

السينما الوطنية السودانية

يتضح من مسار إحياء السينما السودانية في الأعوام القليلة الماضية أنها حققت قفزات نوعية على الصعيد الدولي، إذ يتجلى فيها التركيز على الكيف والجودة مقابل الكم والعدد، وهي بداية مبشرة وانطلاقة واعدة يقوم بها شباب سوداني موهوب ومتشوق للتعبير عن نفسه ومجتمعه، وآماله الشخصية، والعامة فنيا وسينمائيا. لكن السؤال المهم هنا حول دور المجتمع السوداني في مثل هذه الصحوة الفنية السينمائية، فمن الواضح أيضا أن هناك انفصالا بين المجتمع والجمهور السوداني وبين هذه الظاهرة السينمائية التاريخية اللافتة في البلاد؛ فمعظم دور السينما مغلق منذ عقود ولا يتسنى لمعظم الشعب أن يتابع الإنتاج السوداني الحاصل على جوائز في مهرجانات دولية، ربما يتابعها كحدث خبري يدعو للفخر، لكن متابعة الغريب وليس المتفاعل.

وهنا تمثل جهود بعض الدول الأوروبية متنفسا محليا للجمهور السوداني للتفاعل مع السينما؛ إذ تقوم بعض دول أوروبا بمبادرات سينمائية محلية في السودان، مثل المبادرة الفرنسية بالتعاون مع وزارة الثقافة السودانية من أجل إعادة تأهيل 16 دار سينما في البلاد، وأيضا هناك برنامج "السودان وأوروبا، صلات إبداعية" يموله الاتحاد الأوروبي ويرعاه المجلس الثقافي البريطاني في الخرطوم ويشمل ورشات وبرامج تدريبية، وفي العام الماضي نظم البرنامج مهرجان الفيلم الأوروبي الذي عرض أفلامه عبر سينما السيارات.

لست من المشككين والخائفين من الدعم الثقافي والفني الأوروبي سعيا وراء النوايا خلف سبب هذا الدعم لبلد في وضعية انتقالية مثل السودان؛ فالمبدع وكذلك الجمهور السوداني قادر على التمييز بين الغث والسمين، كما أن كثيرا من الدعم الفني الدولي مبني على تعزيز العلاقات الثقافية والدبلوماسية بين الدول، وذلك ينعكس بشكل غير مباشر على بقية العلاقات بين أي بلدين وليس بالضرورة أن يكون حاملا لأجندات سياسية وقيمية متناقضة مع ثقافة الجمهور وأخلاقه، لكن سيبقى مثل هذا الدعم دائما في خانة العامل المساعد وليس الفاعل الأصلي.

أخشى أن تبقى السينما السودانية في حالة الاحتفاء والاحتفال بإنجازات المهرجانات والإنتاج والعرض الأجنبي المشترك، وتنسى أنها لم تبنِ بعد قواعد سينما وطنية يتفاعل فيها المواطن العادي مع الأفلام بوصفه مشاهدا، يؤثر فيها ويتأثر بها. كذلك فهي محرومة من الدعم العربي كرصيد سينمائي يمثل قاسما ثقافيا مشتركا، اللهم إلا الإسهامات العربية الفردية لسينمائيين عرب بالمشاركة مع أقرانهم السودانيين، مثل تجربة المخرج اللبناني علي شري وأيضا تجربة المنتج المصري حسام علوان منتج فيلم "ستموت في العشرين".

لقد دخلت السينما أول الأمر عبر الاحتلال البريطاني عام 1912، وكانت نخبوية بالأساس وكان يمكن تفهم هذا الأمر لبلد واقع تحت الاحتلال. مرت على البلاد بعد ذلك ثورات وانقلابات ومشاريع مختلفة لم يكن من بينها إحياء سينما سودانية وطنية، وقد حان الوقت لاستثمار هذه الحماسة الشبابية الداخلية والدعم الثقافي الدولي من أجل وضع قواعد سينما وطنية تبقى جيلا بعد جيل وتعبّر عن المجتمع السوداني.

 

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 5 + 10