كتبت احسان الفقيه: السعودية وتركيا.. تصالح المصالح

2022.06.20 - 08:12
Facebook Share
طباعة

 عندما يأكل التمساح وجبته، يحتاج إلى من يخلصه من فضلات الطعام العالقة بين أسنانه، فيبقي فمه مفتوحا، ويدع المهمة لطائر الزقزاق، الذي يحوم في الأماكن التي توجد فيها التماسيح، ثم يبدأ في الاقتيات على تلك الفضلات، من دون أن يحاول التمساح التهام ذلك الطائر، لأن كلا منهما يحتاج إلى الآخر.

لقد جُبِلت الكائنات الحية على الاهتداء إلى مصالحها، فمن ثم يلتقي عليها الفرقاء، وأولى بذلك البشر، تجمعهم المصالح، ويدورون في فلكها، وفي ميدان السياسة، لا تثبت للعلاقات قدم، فعدو الأمس صديق اليوم، وصديق الأمس عدو اليوم، جمعتهم وفرقتهم المصالح، كما قال تشرشل بعد تجربة الحرب العالمية الثانية المريرة: «في السياسة، ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة».

بعد أن كانت العلاقات بين السعودية وتركيا على صفيح ساخن، على خلفية تبني أنقرة موقفا وُصف بالتشدد حيال ملفات سعودية، أبرزها حصار قطر ومقتل جمال خاشقجي، نشهد في هذه الآونة تقاربا جِدّيا بين الطرفين، وصل إلى أعلى مستويات السلطة، حيث يستعد أردوغان لاستقبال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في زيارة رسمية إلى تركيا هذا الأسبوع، تأتي بعد زيارة قام بها الرئيس التركي للمملكة في إبريل/نيسان الماضي بدعوة من الملك سلمان. سيكون من قبيل البلاهة، توصيف هذا التقارب بأن طرفا مرّغ أنف طرف في التراب، وأجبره على الخوض في مسار التقارب، فالسياسات الخارجية بين الدول لا تدار بهذا المنطق الساذج، وإلا فسّرت التقاربات التي تتم بين الدول الكبرى واحتواء الخلافات بينها على أنه كسر لهيبة طرف من الأطراف.
السعودية وتركيا كلاهما يحتاج إلى الآخر، فالسعودية تعمل على تنويع خياراتها الخارجية، بالاتجاه نحو التقارب مع دول قوية تعوض تراجع الدور الأمريكي في ملفات المنطقة، وتقلص الالتزامات الأمنية الأمريكية تجاه الخليج في ظل إدارة بايدن، الذي تقدمت المفاوضات النووية بين إيران والقوى الغربية في عهده بشكل قوي، الأمر الذي يعني افتقاد دول الخليج لمظلة أمنية من النفوذ الإيراني، فمن ثم تفاقمت حاجة السعودية إلى تركيا، خاصة مع تعاظم دور الصناعات الدفاعية التركية. وبدورها، تحتاج تركيا إلى السعودية بشكل قوي، حيث يهدف أردوغان إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية التي تثقل كاهل بلاده، فيستفيد من إعادة بناء العلاقات مع السعودية، إنهاء المقاطعة غير الرسمية التي مارستها السعودية تجاه الواردات التركية، علما أن السعودية ودول الخليج سوق حيوي للبضائع التركية، أضف إلى ذلك أن هذا التقارب سوف يعزز بقوة الاستثمار السعودي داخل تركيا، ثم يأتي دور التعاون في مجال الطاقة، الذي سيكون مفيدا للطرفين خاصة تركيا. وإجمالا، يأتي هذا التقارب بعد أن أدركت قوى المنطقة ضرورة التخلي عن سياسة التنافس الإقليمي على تشكيل الجغرافية السياسية للمنطقة، وهي رؤية شكّلتها ظروف اندلاع ثورات الربيع العربي والثورات المضادة، ذلك التنافس الذي استنزف هذه القوى على مدى عشر سنوات، فيما استفادت قوى إقليمية أخرى من هذا التنافس أبرزها إيران.

يأتي هذا التقارب، كثمرة للرسائل الإيجابية المتبادلة بين الطرفين، والتي كانت بمثابة أرضية خصبة لاتخاذ خطوات فعلية باتجاه هذا التقارب، الذي سبقته مصالحة تركية إماراتية منذ العام الماضي، ومفاوضات تركية مصرية لاحتواء الخلافات، تؤسس لمزيد من أوجه التعاون والتلاقي. ربما ساعد المناخ الحالي تركيا والسعودية على تجاوز الخلافات، والبحث في المشتركات، حيث أن تقلص دور ما يُعرف بالإسلام السياسي أمام الثورات المضادة، قد خفف كثيرا من التزامات تركيا تجاه هذا الملف، وهو أحد الملفات الشائكة التي دارت عليها رحى الخلافات بين الحكومات العربية والحكومة التركية.
ولئن كان هذا التقارب السعودي التركي يأتي على قاعدة تقاطع المصالح، التي تُبنى عليها السياسات الخارجية لجميع الدول، إلا أن هذا التقارب له سماته التي تخرجه من حيز المصلحة المؤقتة المرهونة بالظروف الإقليمية، إلى حيز العلاقات الاستراتيجية الدائمة، ليس فقط بين السعودية وتركيا، بل في علاقة الوطن العربي بأسره مع تركيا. تركيا دولة سنّية تتفق والاتجاه السائد في الدول العربية، بما يعني بعدها عن شكل الدولة الطائفية، التي تهدد أمن هذه المنطقة السنية على غرار الجمهورية الإيرانية.

يرتبط العرب والأتراك برباط حضاري تراثي، وتلاقح ثقافي بين الشعب التركي والشعوب العربية، حيث كانت معظم الدول العربية واقعة في نطاق الإدارة العثمانية التي هيمنت على المنطقة منذ القرن السادس عشر الميلادي. وتأكد هذا التلاقي في العشرين سنة الماضية منذ تولى حزب العدالة والتنمية إدارة تركيا، نظرا لأن الاهتمام بالعمق العربي له أهمية قصوى لدى الحزب الحاكم، باعتبار الدول العربية مجالا حيويا لتركيا، خلافا لتوجهات الحكومات التركية السابقة. مهما كانت الأزمات والتجاوزات والمواقف المزعجة، حاضرة وماثلة أمامنا مع هذا التقارب، إلا أنه لا يسعنا إلا الترحيب بهذه الخطوة المهمة، ولا يمكننا في أي حال من الأحوال أن نطالب أيا من الدول بتجاوز مصالح شعوبها لصالح الثبات على مواقف شخصية من أزمة بعينها، فهذا مما لا تتحمله الطاولة السياسية لأي قيادة. السعودية وتركيا، هما قطبا العالم السني، وكلاهما له أهميته الحيوية للأمة، والتقارب بينهما يثلج صدر كل عربي مسلم حريص على أمته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 5 + 10