كتب محمود علوش:في آفاق انعطافة العلاقات التركية الإماراتية

2021.11.25 - 01:53
Facebook Share
طباعة

عند وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002، وضع الرئيس رجب طيب أردوغان نُصب عينيه إعادة مد الجسور مع العالم العربي بعد انقطاع طويل. حظي هذا التوجه وقتها بترحيب عربي، حيث سعت تركيا إلى تقديم نفسها للعالم العربي بشكل مختلف كلياً عن قوى أخرى سعت إلى الهيمنة، وأجّجت الصراعات الطائفية والمذهبية والعداء مع الحكومات العربية. قوة إسلامية صاعدة وعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ترغب بالدخول في شراكة سياسية واقتصادية مع المنطقة على قاعدة الربح المتبادل وتتبنّى نهج تصفير المشكلات مع جيرانها. كان ذلك وصفة مثالية متكاملة لشراكة وليدة سُرعان ما وجدت نفسها في قلب عاصفة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة في 2011، وخلّفت فراغاً سياسياً وأمنياً كبيراً، دفع أنقرة إلى التخلي عن نهج عدم التدخل والانخراط السياسي والعسكري الواسع في صراعات امتدّت من سورية إلى ليبيا مروراً بالخليج، سعياً إلى إثبات حضورها، ولضمان ألا يتحوّل الفراغ الناشئ إلى تهديد مباشر لها ولمصالحها، ولكي لا تملأه قوى أخرى من خارج المنطقة.

كان لصعود تيار الإسلام السياسي بعد الربيع العربي دور رئيسي في تكوين نظرة عدائية لتركيا في بعض العواصم، سيما الرياض وأبو ظبي، ثم القاهرة

كان لصعود تيار الإسلام السياسي بعد الربيع العربي دور رئيسي في تكوين نظرة عدائية لتركيا في بعض العواصم، سيما الرياض وأبو ظبي، ثم القاهرة بعد إطاحة حكم الرئيس محمد مرسي، حيث تعاملت هذه الدول مع جماعة الإخوان المسلمين ذراعا للمشروع التركي في المنطقة. بقدر ما ساهمت تحولات 2011 في منح تركيا دوراً كبيراً في عملية إعادة تشكيل الإقليم، فإنها، في المقابل، تسبّبت بإلحاق أضرارٍ جسيمة في علاقاتها مع الدول العربية الفاعلة، وأدخلتها في مواجهةٍ معها. لم تقتصر حدود المواجهة على حدود الدول التي شهدت اضطرابات وصراعات، بل توسّعت لتشمل منطقة الخليج بعد اصطفاف تركيا إلى جانب قطر في أزمتها مع الدول الأربع وبناء قاعدة عسكرية في الدوحة، ثم الانخراط العسكري التركي في الصراع الليبي. في المقابل، صعّد التحالف العربي من وسائل المواجهة بالاصطفاف إلى جانب اليونان في صراعها مع تركيا شرق المتوسط، ثم اتفاق السلام الذي أبرمته الإمارات والبحرين مع إسرائيل، ونُظر إليه في أنقرة توسيعا للتحالف المناهض لها.

خلال العقد الماضي، بدت العلاقات التركية مع القوى العربية الفاعلة أسيرة التنافس الحاد الذي افتقر إلى قواعد تُديره بشكل سلس، ما حال دون تطوّره إلى صدام عسكري بالوكالة كما حصل في ليبيا. اليوم، وبعد عقد من مواجهة مفتوحة وغير منضبطة، تُبدي تركيا وخصومها العرب الرئيسيون استعداداً لطي صفحة ما بعد الربيع العربي، وإعادة تنظيم خلافاتهم من خلال التركيز على جوانب التعاون المتاحة، كالاقتصاد والتجارة. كانت تركيا سبّاقةً في هذا الإطار، عندما تبنّت مطلع العام الجاري (2021) سياسة خارجية جديدة، تهدف إلى إصلاح العلاقات مع الدول العربية، حيث أطلقت مساراً لإعادة إصلاح العلاقات مع مصر، أعقبه مسار آخر لإصلاح العلاقات مع الإمارات والسعودية. على عكس المسار المصري التركي الذي لا يزال يواجه عقبة تضارب مصالح البلدين في ليبيا، حقّق المسار التركي الإماراتي تقدماً كبيراً تُوج بزيارة لولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، أنقرة، بعد أشهر من المفاوضات المكثفة المُعلنة وغير المُعلنة بين مسؤولي البلدين لوضع صيغة للعلاقة الجديدة.

يشكل عزل الخلافات الإقليمية، في الوقت الراهن، التحدّي الأكبر أمام البلدين لإنجاح المسار الجديد

بالإضافة إلى العوامل الذاتية، المتمثلة برغبة كل من تركيا والإمارات، في الحد من صراع استنزف من قدرات الطرفين العسكرية والاقتصادية، وحدّ من فرص التعاون بينهما في النزاعات الإقليمية التي أثرت سلبا على كليهما، برزت خلال العامين الأخيرين عوامل أخرى، زادت من قناعتهما بالبحث عن مسار جديد للعلاقة، في مقدمتها التحول الأميركي من إدارة ترامب التي غذّت الخلافات التركية العربية، ومنحت أبو ظبي غطاءً كبيراً لسياستها الإقليمية، إلى إدارة بايدن التي سحبت هذا الغطاء، وتعمل على تخفيف انخراطها في قضايا المنطقة لصالح التركيز على مناطق أخرى توجد فيها الصين. تُضاف إلى ذلك تداعيات أزمة كورونا على اقتصادات دول المنطقة، ومنها تركيا والإمارات، والتي جعلت من البحث عن فرص عودة التعاون الاقتصادي بين البلدين إلى سابق عهده ومنحه زخماً إضافياً لتجاوز هذه التداعيات أولوية لدى صنّاع القرار في أنقرة وأبو ظبي، فضلاً عن البيئة الإقليمية الجديدة التي أخذت منحى التهدئة بعد حل الأزمة الخليجية وإطلاق مسار التسوية السياسية في ليبيا.

لم تنقطع العلاقات التجارية بين الإمارات وتركيا تماماً خلال فترة الأزمة، ولم تؤد خلافات البلدين العميقة في مقاربة القضايا الإقليمية إلى قطيعة دبلوماسية بينهما، كما في الحالة المصرية التركية، ما شكّل أرضيةً مهمةً لإعادة التطبيع. وما كان للمسار الجديد أن ينجح لولا البراغماتية التي تتميز بها السياسة الخارجية لكل من البلدين، والتي ساعدتهما على إحداث تحوّل سريع في السياسات، وفق ما تقتضيه متطلبات المصالح والظروف المتغيرة والتكيف الجديد في مجال الاقتصاد. لذلك تبدو الحاجة الاقتصادية للطرفين، وتطلعهما إلى الفوائد الاقتصادية المشتركة للمصالحة، المُحركين الرئيسيين لها في هذا الإطار. ويشكل عزل الخلافات الإقليمية، في الوقت الراهن، التحدّي الأكبر أمام البلدين لإنجاح المسار الجديد، ويتوقف هذا الأمر بالدرجة الأولى على قدرة الطرفين في تحصين التقارب الاقتصادي من تضارب المصالح في بعض صراعات المنطقة، لا سيما ليبيا وسورية وتحويله إلى فرصة للبحث عن مقاربةٍ مشتركةٍ لسياستهما المستقبلية فيها.

خلال العقد الماضي، بدت العلاقات التركية مع القوى العربية الفاعلة أسيرة تنافس حاد

وبالنسبة للرئيس أردوغان الذي يواجه وضعاً اقتصادياً صعباً في بلاده على أبواب انتخابات 2023، ستكون عودة الاستثمارات الإماراتية إلى تركيا، والدخول في مشاريع تعاون اقتصادي جديدة، مفيدة له في الداخل. كما أن إصلاح العلاقات مع الإمارات سيُساعد تركيا التي تواجه صعوباتٍ في العلاقات التجارية مع دول المنطقة، ويوفر لها فرصاً اقتصادية جديدة، بالنظر إلى مزايا الإمارات في منطقة الخليج في التجارة والاقتصاد. لذا، ستوفر العلاقات الوثيقة التي سيتم إقامتها فرصًا مهمة للمنتجات التركية للوصول ليس فقط إلى منطقة الخليج، ولكن أيضًا إلى الأسواق الأفريقية والآسيوية. ومن المزايا الأخرى التي سيوفرها التقارب مع الإمارات لتركيا تفكيك التحالف المناهض لها في مناطق جغرافية عدة، لا سيما في شرق البحر المتوسط. وهذا ما يُفسر أيضاً اهتمام أنقرة بإنهاء القطيعة الدبلوماسية مع مصر.

وتبدو دوافع الإمارات مشابهة لتركيا. خلال حرب اليمن، كان التركيز الإماراتي ينصب على الوجود في محيط مضيق باب المندب، وكذلك الوصول إلى شرق المتوسط عبر اتفاقية مع إسرائيل، ضمن رغبتها في أن تكون نشطة في الممرّات المائية وطرق التجارة البلدية. تركيا مهمة للإمارات في هذا الإطار، إذ تُحاول الأخيرة أن تكون فعالةً في المشروع الذي أعلنته إيران لنقل البضائع من الإمارات عبر أراضيها إلى ميناء مرسين التركي، والذي يختصر عملية النقل على نحو أسبوع، بعد أن كان نقل البضائع من ميناء الشارقة إلى مرسين، عبر باب المندب وقناة السويس والبحر الأحمر، يستغرق عشرين يوماً. ومن المزايا الأخرى التي تطمح لها الإمارات أن التعاون التجاري مع تركيا يُساعدها في الوصول برّاً إلى أسواق آسيا الوسطى، بعد إنشاء مشروع الممرّ البرّي بين تركيا وأذربيجان. على الرغم من أن البلدين أنهيا القطيعة، إلاّ أن المسار الجديد يسير في حقل ألغام، ومن غير الواضح ما إذا كان قادراً على الاستمرار من دون تحقيق تغييرٍ حقيقيٍّ في مقاربتهما الإقليمية. أوجدت المصالحة التركية الإماراتية آفاقاً جديدة ليس للبلدين فحسب، بل للمنطقة عموماً، ويجب النظر إليها أنها فرصة نادرة للخروج من الدائرة المفرغة التي دخلتها العلاقات التركية العربية بعد 2011.

المصدر:https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D9%81%D9%8A-%D8%A2%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%86%D8%B9%D8%B7%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A9

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة و انما عن رأي كاتبه فقط 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 10