كتب المهدي مبروك:المثقفون والانقلاب في تونس

2021.10.25 - 02:56
Facebook Share
طباعة

للمرّة الثانية على التوالي، يطّلع الرأي العام التونسي والدولي على بيانات صادرة عن مثقفين تونسيين يساندون فيها الانقلاب على الدستور بشكل صريح. كانت الأولى غداة الانقلاب مباشرة، حين أشهر بعض الجامعيين والفنانين والإعلاميين بياناً وقعوا عليه، عبروا فيه عن دعمهم الرئيس قيس سعيّد، إلى حد إبداء حماسة غير مألوفة، حتى بدت فيه خفّة أيديولوجية سافرة. هذه المرّة، صدر البيان، قبل أيام، عن مجموعة من المثقفين أيضاً، منهم من كان قد شارك في البيان الأول وأضيف إليهم آخرون. وهو ردّ ضمنيٌّ على ما صدر عن مجموعة من المثقفين الأجانب، ومنهم الفرنسيان الفيلسوف إدغار موران وعالم الاجتماع المستشار في الأمم المتحدة جون زيكلار. وقد عاد هؤلاء (المثقفون الأجانب) ثانية إلى الوضع في تونس، واعتبروا أن البلاد تعيش تحت "حذاء دكتاتورية". ولا يبدو أن موقف هؤلاء المثقفين بعيد جداً عما صدر عن دولهم التي أجمعت تقريباً على أن ما قام به سعيّد غصبٌ بالقوة للسلطة، وتدعّم هذا الموقف أكثر مع صدور المرسوم 117 الذي خوّل فيه سعيّد لنفسه السيطرة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، جامعاً بذلك ما لم تجمعه أعتى النظم الشمولية المعاصرة، وغدت تونس تسيّرها مراسيم سلطانية لا رادّ لها. يتيح ذلك المرسوم للرئيس اتخاد القرارات في ما يفوق 25 مجالاً تمتد من الأحوال المدنية إلى الطاقة والبيئة.
يعيد البيان الجديد الموقع من مثقفين توانسة تقريباً السردية التي ينتجها خطاب الرئيس وشروحات أنصاره، إذ يبني انقلابه على حالة البلاد التي عرفت انهياراً للدولة، وتفكّكاً لمؤسساتها في سياقٍ استشرى فيه الفساد والعبث بالقانون. كذلك يدين البيان كل أشكال التدخل الخارجي، مدغدِغاً مشاعر السيادة الوطنية، مؤمناً أن الشعب التونسي، بكل هلامية اللفظ وغموضه والتباسه، قادرٌ على أن يهتدي، بمفرده ومن دون وصاية أحد، إلى تلمّس طرق خلاصه.

ينسى هؤلاء المثقفون أن العالم تعولم، وأن وضعية البلدان لم تعد خافية، وأن تحليلها وتوقعها أصبحا متاحين بشكل غير متوقع

يحذو البيان تقريباً حذو النعل تلك السردية ويستظل بظلها، في إشارة صريحة إلى أن المواقف الصادرة عن الخارج، سواء عن ساسة أو مثقفين، تنقصها الدقة والدراية الكافية بالوضع التونسي، والحال أنها حجّة مردودة على أصحابها، فلهذه الدول وهؤلاء المثقفين، خلاف ما نتصوّر، تقديراتٌ دقيقة، بل لهم، في أحيان كثيرة، معرفة وتوقع أدق مما ننتهي إليه نحن. لا يعد الأمر سرّاً، فشبكات التواصل مفتوحة، والعالم غدا قرية منذ سنوات، ما أتاح تبادل المعلومات بشكل مفتوح، يتعرّف فيه الناس على أحوال تلك الدول، بل إن تونس تحتاج، في أحيانٍ كثيرة، إلى تلك التقارير لمعرفة وضعها الاقتصادي والصحّي... إلخ: بيانات صندوق النقد الدولي، تقارير البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الهجرة واليونسكو، مثلاً، تصف بدقة أحوال تونس، وليس المجال السياسي استثناء.
ينسى هؤلاء المثقفون أن العالم تعولم، وأن وضعية البلدان لم تعد خافية، وأن تحليلها وتوقعها أصبحا متاحين بشكل غير متوقع. لم يقدم هؤلاء أي حجّة تجعلهم يساندون مشروع سعيّد، لأنهم لا يعرفون تماماً أركان هذا المشروع وملامحه. في دعمهم له، ونفي تهمة الدكتاتور عن صاحبه يعمدون إلى الأسباب نفسها التي قدّمها، أي شيطنة العشرية السابقة واعتبارها مسؤولة عن الحالة التي وصلت إليها البلاد، مع أن ذلك يحتاج تدقيقاً كثيراً. ومع ذلك، من المفترض أن يساند المرء أي مشروع، ليس لأنه يبني على نقيض ما فات، بل لأنه يعد بشيءٍ ما ويقدّم رؤية ما.


يبشّر سعيّد بحوار سيكون شكلاً من "الجماهيرية الإلكترونية"، ويتجاوز فيه النخب والمنظمات الوطنية والمجتمع المدني

لا أحد من هؤلاء قدّم في بياني المساندة اللذيْن أعلنوهما إن كان يساند موقف الرئيس من الديموقراطية التمثيلية، وحواره الذي يبشّر به، وسيكون شكلاً من "الجماهيرية الإلكترونية"، ويتجاوز فيه النخب والمنظمات الوطنية والمجتمع المدني، الأمر الذي دفع الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، الذي ساند الرئيس بعيد الانقلاب، لأن يخرُج من دائرة التردّد حين صرّح، أول من أمس السبت، أن البلاد لن تفرّط في الديمقراطية التي اكتسبتها بتضحيات دماء الشهداء، وأنّ الديمقراطية لا تقوم إلا على الأحزاب والمنظمات الوطنية، وأنّ الحوار الذي ألمح إليه الرئيس لا معنى له.
لا تقدّم بيانات المثقفين التي تدعم سعيّد أي برنامج تدعمه، ما يجعل مساندتهم قائمة على ما أوضحه، بشكل سافر، أحد زعماء اليسار الذي خرج بمقعد يتيم في انتخابات 2019، حين قال إنّ ما قام به الرئيس تجاه حركة الإسلام السياسي لم يقدر عليه لا بورقيبة ولا بن علي. والعديد من هؤلاء المثقفين يباركون سعيّد، لأنّه خلّصهم من خصمٍ عجزوا عن التغلب عليه في صناديق الاقتراع، ولذلك يصفّقون لمنجزه ويصرخون: دعه يعمل، دعه يمرّ، إنّه يجرف الحركة التي عجزنا نحن عنها قروناً. خراجه السياسي عائد إلينا، من دون أن نُصاب بخدوش الاصطدام معها، أو حتى مجرّد رضوضه.

المصدر:https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 9