كتب عادل بن عبد الله: تونس أو بلد "الفشل النُّخبوي الدائم"

2021.07.23 - 09:40
Facebook Share
طباعة

 مهما كانت اختلافاتنا في توصيف "الحدث التونسي" الذي وقع بين 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 و14  كانون الثاني/ يناير 2011، وسواء اعتبرناه ثورة أم انتفاضة أم انقلابا، فإن ذلك الحدث قد أعاد هندسة الواقعين المحلي والإقليمي، وخلق سياقا تاريخيا مختلفا عن السياق المؤطّر لفعل النخب المدنية والعسكرية العربية التي هيمنت بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي.


وإذا ما نظرنا إلى هشاشة الانتقال الديمقراطي في تونس ومحصوله الواقعي الهزيل - بعيدا عن غنائيات "الاستثناء" وتبريرات"الإكراهات" - فإن السؤال الذي ينبغي طرحه هو التالي: هل كان الحدث التونسي "انكسارا بنيويا" عميقا في الحقل السياسي وفي مختلف الحقول الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، انكسارا سيخلق زمنا سياسيا، بل زمنا حضاريا مستأنفا تسود فيه المطالب التحررية السيادية مركز الاهتمام الجمعي والنخبوي رغم قوة المقاومة التي تلقاها تلك المطالب داخليا وخارجيا حاليا، أم إن "الحدث التونسي" - بحكم خيارات النخب التي سيطرت على المرحلة التأسيسية وأشرفت على الانتقال الديمقراطي - هو مجرد اختلال وظيفي مؤقت في بنية السلطة ولن يكون مآله إلا إعادة التوازن لتلك البنية وتكريس وظيفتها الأصلية (حماية الوكلاء وتكريس التبعية والنهب المنظم للثورات المادية والروحية مع توسيع قاعدة تلك السلطة وتعديل نمط شرعيتها "صوريا")؟

الفترات الأولى التي أعقبت هروب المخلوع، هيمنت السردية الثورية على السجال العمومي في تونس، ولم يكن هناك من يجرؤ على التشكيك فيها، اللهم إلا بعض الأصوات الشاذة التي لا قيمة لها. ولكنّ عملية مأسسة "الثورة" عرفت عدة أزمات وانتكاسات حرفت الصراع عن مداره الأصلي


في الفترات الأولى التي أعقبت هروب المخلوع، هيمنت السردية الثورية على السجال العمومي في تونس، ولم يكن هناك من يجرؤ على التشكيك فيها، اللهم إلا بعض الأصوات الشاذة التي لا قيمة لها. ولكنّ عملية مأسسة "الثورة" عرفت عدة أزمات وانتكاسات حرفت الصراع عن مداره الأصلي (أي أن الكل في مواجهة منظومة القمع والاستبداد) إلى مدارات جديدة جعلت أغلب الفاعلين الكبار أشدّاء على بعضهم بعضا، رحماء بورثة المنظومة القديمة.


وليس هدفنا هنا أن نبسط القول في أسباب ذلك الانحراف ولا في محصوله، بل يعنينا فقط أن ننبّه إلى أن "الثورة" قد فشلت في خلق سرديتها الخاصة برموزها وأحداثها وقادتها، لتتحول تدريجيا إلى مجرد "اختلال وظيفي" في آليات اشتغال المنظومة القديمة، وهو اختلال لا يستوجب - عند النخب المسيطرة - مساءلة خياراتها الكبرى اللا وطنية، بل تكفيه عمليات "ترقيع" جزئية كانت تتم واقعيا تحت إشراف ورثة تلك المنظومة، فهم من يملكون ركائز السلطة من مال وإدارة ونقابات ونخب ودعم خارجي.


ولم يكن دخول الإسلاميين إلى مجال الفعل السياسي القانوني (خاصة حركة النهضة) دليلا على أي توجه لإحداث تغيرات جذرية في خيارات الدولة- الأمة بلحظتيها الدستورية والتجمعية، بل كان دليلا على "براغماتية" النواة الصلبة للمنظومة القديمة التي استطاعت توسيع واجهاتها الحزبية وشرعيتها السياسية، دون أن تسمح بأي خيارات جديدة قد تهدد مصالحها المادية والرمزية.

لم يكن دخول الإسلاميين إلى مجال الفعل السياسي القانوني (خاصة حركة النهضة) دليلا على أي توجه لإحداث تغيرات جذرية في خيارات الدولة- الأمة بلحظتيها الدستورية والتجمعية، بل كان دليلا على "براغماتية" النواة الصلبة للمنظومة القديمة التي استطاعت توسيع واجهاتها الحزبية وشرعيتها السياسية


فقد نجحت تلك النواة الصلبة في تحويل حركة النهضة إلى "وتد" من أوتاد الحكم، ينافس "الوطد" وكل أطياف اليسار الثقافي التي خدمت السلطة قبل الثورة وبعدها. وهو ما يعني استمرار منطق الفشل أو تفويت الفرص الذي أبدعت فيه مختلف النخب الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.


بعد الاستقلال، كان الراحل بورقيبة أمام فرصة تاريخية كبيرة لبناء نظام ديمقراطي حقيقي، أو لنقل كان قادرا على تأسيس ملكية دستورية يكون هو رئيسا لوزرائها ويكون الملك (الباي) مجرد رمز لوحدة الأمة دون صلاحيات حقيقية. ولكن "الزعيم" أبى إلا أن يكون "بايا" جديدا في نظام رئاسوي. فكان أن أسس الدولة-الأمة التي لم تكن في جوهرها إلا دولة جهوية- زبونية تابعة تحكمها الاستعارة الوطنية.


ثم أمعن الراحل بورقيبة في هذا التوجه الذي يماهي بين الدولة والحزب والزعيم (على حد عبارة المرحوم محمد أركون)، لينصّب نفسه في أرذل العمر "رئيسا مدى الحياة"، أي ملكا/ بايا غير متوّج، مع ما أعقب ذلك من صرعات الأجنحة داخل المنظومة الحاكمة. ومهما كان تقييمنا لتجربة المرحوم بورقيبة ودوره في بناء الدولة الحديثة وتكريس فلسفتها (مقارنة بما تم في تجارب مشابهة خاصة في جنوب شرقي آسيا)، فإنه قد أعاد إنتاج ثقافة "عبادة الزعيم" (أو ثنائية الشيخ والمريد بمفردات معلمنة)، ولم يستطع من انقلب عليه (المخلوع ابن على) أن يتحرر منها رغم وعوده غداة انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987.


وهذا ما كان يعني واقعيا أن تونس لم تستطع أن تتخلص في عهده من "منطق الملكية" والحكم مدى الحياة، كما لم تستطع أن تبني مشتركا مواطنيا (كلمة سواء) تخرج من منطق الجهوية والزبونية وما يفرضانه من تبعية للخارج سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

النخب التي أدارت تونس بعد الثورة قد فشلت في التخلص من ميراثهما معا. وهو فشل جعل ورثة المنظومة القديمة يتصدرون المشهد العام ويتحكمون – من مواقعهم المختلفة - في مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته الهشة


لقد كانت تونس في عهد المخلوع "بلد الفرح الدائم"، ولكنه كان فرح البلوتوقراطية - أي المافيات الحاكمة والمستفيدة من الاقتصاد الريعي - وفرح بعض الجهات والفئات المحظوظة التي جاءت "الثورة" لتُظهر زيف مجازاتها وبؤس حقائقها.


إذا كان المرحوم بورقيبة قد فشل في تحويل الاستعارة الوطنية إلى سياسات/ خيارات تحررية سيادية حقيقية، وإذا كان المخلوع قد فشل في تجاوز منطق عبادة الزعيم وبَولسة الحقل السياسي مع ما يسندهما من بنية جهوية زبونية ريعية للدولة، فإن النخب التي أدارت تونس بعد الثورة قد فشلت في التخلص من ميراثهما معا. وهو فشل جعل ورثة المنظومة القديمة يتصدرون المشهد العام ويتحكمون – من مواقعهم المختلفة - في مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته الهشة.


وقد أثبتت هذه النخب أن "الكتلة التاريخية" الوحيدة التي تحكم الواقع التونسي هي كتلة المنظومة القديمة، بصرف النظر عن مواقعها في السلطة والمعارضة. فقد نجحت في "تدجين" الجميع بدرجات متفاوتة، وجعلت من نفسها مركز الحقل السياسي، بل مركز هندسة المجتمع في جمهوريةٍ ثانية كان يُفترض بها أن تدفع بهم إلى الهامش أو حتى إلى "العزل السياسي" التام.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 9