أزمة الودائع في لبنان: خطط حكومية وتحقيقات موسعة

2025.12.09 - 11:02
Facebook Share
طباعة

 بدأت الحكومة تحريك ملف معالجة الأزمة المالية عبر إنجاز مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، في محاولة لتنظيم الفجوة التي عصفت بالنظام المصرفي منذ 2019. المشروع يضع مسؤولية مركزية على الدولة في انهيار القطاع، لكونها تخلّفت عن سداد التزاماتها المرتبطة بسندات اليوروبوندز، لكنه يتجاهل في المقابل النموذج المصرفي الذي بناه مصرف لبنان في التسعينيات والذي منح المصارف التجارية أرباحاً استثنائية على مدى سنوات طويلة.

يرتكز القانون على تحويل دين مصرف لبنان على الدولة، الذي سيُحدَّد لاحقاً بين وزارة المالية والمصرف المركزي، إلى سند دائم بفائدة 2%. كما يتضمّن إنشاء صندوق استرداد الودائع الذي سيضم أصول مصرف لبنان، من إيرادات الديون السيادية إلى العقارات وحصص الشركات، مع تخصيص 75% من عائدات تصفية هذه الأصول لتمويل الصندوق، ما يعني عملياً إمكانية بيع الأصول العامة للمساهمة في تغطية التزامات الودائع.


إعادة الرسملة على مرحلتين
يطرح المشروع مساراً من مرحلتين لإعادة التوازن إلى القطاع المصرفي.

المرحلة الأولى تشمل تقييم خسائر مصرف لبنان والمصارف التجارية عبر تدقيق مستقل لجودة الأصول (AQR)، خلال شهر من نفاذ القانون، بهدف تحديد حجم المطلوبات المتدهورة ولا سيما المرتبطة بالهندسات المالية والعمليات غير النظامية.

المرحلة الثانية تتمثل في خطط إعادة رسملة يضعها مصرف لبنان خلال ثلاثة أشهر من انتهاء التدقيق، بحيث يُضَخ رأس مال جديد في الشريحة الأولى (CET1)، ويُعاد تصنيف ما تبقّى من رأس المال في الشريحة الثانية. ويُمهل كل مصرف حتى خمس سنوات لاستكمال الرسملة وفق معايير «بازل 3». وفي حال عدم الالتزام، تتدخل الهيئة المصرفية العليا لاتخاذ الإجراءات القانونية.


تعريف العمليات غير النظامية
وضَع المشروع خمس فئات للعمليات غير النظامية وآليات التعامل معها:
الحسابات المشبوهة المرتبطة بأموال غير مشروعة، تُجمَّد وتُنقل خارج ميزانيات المصارف بانتظار قرارات هيئة التحقيق.
الحسابات ذات الفوائد المفرطة التي تخطت 2% منذ 2015 ويفوق رصيدها 100 ألف دولار، ويُعاد احتساب الفوارق المحققة لصالح المصرف بقيد عكسي.
تحويلات كبار المساهمين والإدارة إلى الخارج بعد 17 نيسان 2019 فوق 100 ألف دولار، وتُفرض عليها ضريبة استثنائية بنسبة 20% تُحصَّل من أي أموال جديدة أو عبر «أمر قبض» من وزارة المالية. وتشمل أيضاً التحويلات بلا مبرر اقتصادي بعد 17 تشرين الأول 2019.
عمليات شراء الدولار بالليرة بعد 17 تشرين 2019 بكميات تفوق 100 ألف دولار على أسعار غير نظامية، وتُلغى بعمليات عكسية.


آليات سداد الودائع
قسّم المشروع الودائع قبل 17 تشرين الأول 2019 إلى أربع فئات:

الودائع الصغيرة (≤100 ألف دولار): تُسدَّد نقداً بالدولار على أربع دفعات سنوية.

الودائع المتوسطة (100 ألف – مليون دولار): يُسدَّد 100 ألف دولار نقداً، والباقي يتحول إلى شهادات مالية من الفئة (أ) تستحق بعد عشر سنوات بفائدة 2%.

الودائع الكبيرة (1–5 مليون دولار): يُسدَّد 100 ألف دولار نقداً، والباقي يُمنح عبر شهادات من الفئة (ب) تستحق بعد 15 سنة بفائدة 2%.

الودائع الكبيرة جداً (>5 ملايين دولار): يُسدَّد 100 ألف دولار نقداً، والباقي يتحول إلى شهادات من الفئة (ج) تستحق بعد 20 سنة بفائدة 2%.

هذه الشهادات تصبح مغطاة بأصول «صندوق استرداد الودائع»، الذي يضم إيرادات السلع والمعادن الثمينة، العقارات، الحصص في الشركات، إيرادات الديون السيادية والخاصة، والاحتياطات المتاحة.


ثالثاً — التحقيقات القضائية: تتبع التحويلات
في موازاة المشروع الحكومي، وسّعت النيابة العامة المالية تحقيقاتها. فقد طلب النائب العام المالي القاضي ماهر شعيتو من حاكم مصرف لبنان تزويده بكشف كامل بحركة الحسابات الخاصة بمديري المصارف وأعضاء مجالس إدارتها منذ 1 تموز 2019 حتى 1 كانون الأول 2023، سواء داخل لبنان أو خارجه، مع الإيضاحات المتعلقة بالتحويلات وهوية أصحاب الحسابات ونوعية العمليات.

وطلب أيضاً متابعة التحويلات التي خرجت من حسابات هؤلاء إلى حسابات داخل لبنان ثم حُوّلت إلى الخارج، ضمن التحقيقات الأولية المرتبطة باحتمال وجود جرائم مصرفية. وكان شعيتو قد ألزم سابقاً أشخاصاً طبيعيين ومعنويين بإعادة المبالغ التي حوّلوها إلى الخارج خلال الأزمة، على أن تعاد بنفس العملة خلال مهلة شهرين وتحت إشراف النيابة العامة المالية.


رابعاً — جوهر الأزمة: الفجوة والقرار السياسي الغائب
رغم كثرة الخطط الحكومية والمالية، يتفق مسؤولون وخبراء على أن الانهيار ليس لغزاً. فالسلطات تدرك أسباب الفجوة المالية لكنها تواصل تقديم وعود غير قابلة للتنفيذ للمودعين، فيما تتحدث في الجلسات المغلقة عن استحالة إعادة 100 ألف دولار لكل مودع، لأن هذه الخطوة وحدها تحتاج إلى أكثر من 33 مليار دولار غير المتوفرة حتى لو بيعت احتياطات الذهب.

في ندوة متخصصة نظمتها مؤسسة تعنى بالحوار والسلام الأهلي، أجمع الخبراء على أن الحلول موجودة لكن القرار السياسي معطّل.


أرقام صندوق النقد
ممثل صندوق النقد الدولي أوضح أن أي إنقاذ يبدأ بالاعتراف بخسائر مصرف لبنان، حيث لا تتجاوز الأصول القابلة للتسييل 10 مليارات دولار مقابل التزامات تفوق 80 ملياراً، ما يخلق فجوة صافية بين 40 و70 مليار دولار. الدولة غير قادرة على سدّ هذه الفجوة، وأي وعد بتغطيتها غير قابل للتطبيق.

يؤكد الصندوق أن الحل الوحيد يمر عبر:
خفض التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف
تدقيق جودة أصول المصارف بالقيمة العادلة
احترام تراتبية الخسائر
حماية الودائع دون 100 ألف دولار بالكامل
إقرار قانون الفجوة ليصبح قابلاً للتنفيذ سياسياً


رأي الخبراء المحليين
سمير حمود رأى أن المشكلة سياسية لا تقنية، وأن قانون الفجوة سيشكّل معركة كبيرة لأنه قانون حقوق قبل أن يكون قانون أرقام.

منير راشد اعتبر أن الحلول لا تلامس جوهر المشكلة، مقترحاً استخدام 20 مليار دولار من احتياطات مصرف لبنان (نقداً وذهباً) لإعادة 25% من الودائع نقداً وتحويل الباقي إلى ودائع ادخارية تُسدّد خلال 3–4 سنوات.

إبراهيم جمالي قدّم أربعة مسارات إصلاحية: تحسين بيئة الأعمال، إصلاح المؤسسات العامة، إعادة هيكلة المصارف، وإعادة هيكلة الدين العام، مؤكداً أن حماية الودائع حتى 100 ألف دولار تتطلب أكثر من 33 مليار دولار.

محمود جباعي ركّز على سؤال «من أين تأتي السيولة؟»، مشيراً إلى أن موجودات المصرف المركزي القابلة للدفع لا تتجاوز 12–14 مليار دولار. وأشار إلى إمكان تأمين موارد إضافية عبر استثمار المشاعات التي تبلغ مساحتها 160 كيلومتراً مربعاً.


توصيف النواب
النواب المشاركون رأوا أن الأزمة أزمة حوكمة وإدارة، وأن أي قانون لن ينجح بلا تدقيق كامل بين المصارف والمصرف المركزي، وبلا محاسبة واضحة للمسؤولين عن الانهيار.

وبذلك يظهر خيط جامع: كل الحلول التقنية موجودة، لكن غياب القرار السياسي يبقي المودعين رهائن الانتظار.


التحليل
قانون استرداد الودائع يربط الحل بالقطاع العام: وضع أصول مصرف لبنان في صندوق الاسترداد يكشف تحوّلاً جوهرياً باتجاه استخدام الممتلكات العامة لتغطية خسائر النظام المصرفي، وهو خيار قد يخلق نقاشاً سياسياً حاداً حول الملكية العامة.

التدقيق والرسملة خطوة ضرورية لكنها طويلة ومكلفة: منح المصارف خمس سنوات للرسملة يعكس إدراكاً رسمياً بأن الفجوة أعمق من قدرة القطاع على الامتصاص السريع، وأن أي حل سيكون تدريجياً.

التحقيقات القضائية تُعيد طرح سؤال المحاسبة: تتبع التحويلات والحسابات قد يعيد فتح ملفات المسؤولية الفردية للمصرفيين، وهو ما قد يغيّر ديناميكيات التفاوض السياسي.

الحقيقة المالية التي لا يريد أحد قولها علناً: الموارد المتاحة حالياً لا تكفي لسداد 100 ألف دولار لكل مودع، ما يعني أن التعافي الكامل غير ممكن دون قص كبير للخسائر وإعادة هيكلة شاملة.

العائق سياسي لا مالي: تبيّن بوضوح أن الخطة محاصرة بتجاذبات سياسية تمنع إقرار قانون الفجوة، وهو القانون الذي يعتبره كل الخبراء المدخل الوحيد لأي حل قابل للتنفيذ.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 1