كتبَ مصطفى جودة: بايدن.. مآسٍ وانتصارات

2020.12.18 - 07:39
Facebook Share
طباعة

 ربما يظن البعض أن الرئيس المنتخب جو بايدن خامل وضعيف وأنه يفتقر للزعامة والقيادة المطلوب توافرهما لمنصب الرئيس الأمريكى. الحقيقة أن هذا الظن أبعد ما يكون عن الحقيقة. تأمل قوله: الزعامة كما أراها تكمن فى الإحساس بالآخرين وأن تضع نفسك دائما فى مكان الإنسان الذى أمامك فى محاولة لفهمه وما يرمى إليه وما يريد، سواء كان هذا الشخص زعيما أجنبيا أو صديقا تختلف معه فى وجهة نظر. هى أيضا ألا تستأثر بالحمد والفوز كله وأن تعطى الثناء والشكر والاستحقاق لمن يشاركك العمل، سواء كانت النتيجة مكسبا أو خسارة.


مقولة كاشفة له فى مقابلة تليفزيونية مفادها أن الزعامة ليست فى كونك صاحب الأفكار العظيمة وأنك الفائز دائما ولكنها دائما تكمن فى أن تكون حقيقيا وتكون نفسك، وأن القرارات التى ستأخذها ستؤثر بشدة على من تقود. هى مفتاح شخصيته الحالية بعد رحلة عمر حافلة وقصة مأساوية وصبر على ما أصابه، وصموده وصعوده وانتصاره على كل التحديات.


لم تكن حياته نعيما مقيما، بل كانت كثيرا من المآسى الجسام، والتى واجهها بعزم الأمور. ولد فى ولاية بنسلفانيا فى العشرين من شهر نوفمبر عام 1942 لأبوين كاثوليكيين محافظين، غير أن الأسرة استقرت فى ولاية ديلوير فى بحثها عن حياة أفضل. كانت طفولته صعبة. كان يعانى تلعثما فى النطق وكان ذلك يمثل مصدر سخرية له وحرجا من أقرانه. يصف ذلك فى العديد من خطاباته بأن التلعثم فى المدرسة كان يعطيه إحساسا بالدونية أمام أقرانه، وأنه استطاع التغلب على ذلك بدوام قراءة الشعر أمام المرآة. يصف تلك التجربة القاسية بأنها نمت فيه الإحساس بالتعاطف مع الآخرين، وأن تلك اللعثمة لم تعقه من التخرج في الجامعة وحصوله على ليسانس فى التاريخ والعلوم السياسية ثم شهادة فى الحقوق.


تم انتخابه أول مرة فى مجلس الشيوخ عضوا عن ولاية ديلوير فى نوفمبر 1972، وكان عمره ثلاثين عاما، كان حينها أصغر الأعضاء فى مجلس الشيوخ . غير أن القدر كان يخفى له أكبر مأساة فى حياته. بعد فوزه ذهب مع أخته لواشنطن ليختار مساعديه الذين سيعملون معه كالمعتاد، تاركا زوجته وولديه البالغ أحدهما أربع سنوات، والآخر سنتين وابنته ذات السنة الواحدة بناء على رغبة زوجته ليستعدوا لشراء هدايا الكريسماس. تعرضت الزوجة والأولاد لحادث تصادم مروع قتلت فيه هى والابنة ونجا الولدان. يحكى بايدن عن ذلك فى مقابلة صحفية فيقول: «كنت مع زوجتى قبل الحادث وعقب فوزى فى الانتخابات لأول مرة، قالت لى: «ما الذى سيحدث لنا جوى، الأمور ممتازة». يحكى أيضا أنه فكر فى الانتحار عقب الحادث: «بإلقاء نفسى من أعلي الكوبرى الذى حدثت فيه الحادثة، غير أننى لم أقم بتنفيذ ذلك.


ورغم أنى لم أتناول الخمر طيلة حياتى، إلا أننى اشتريت زجاجة ووضعتها على ترابيزة المطبخ لأشربها ولكننى تذكرت ولدى المصابين ولم أتناول نقطة منها. أحسست أن ولدى الصغيرين أنقذانى من ذلك وكان التركيز عليهما طريق نجاتى». يحكى أيضا بعد الحادث أنه كان كثيرا ينتقى مناطق خطيرة ويختار المشى فيها بالليل بحثا عن مشاجرات وكأنه يريد التنفيث عن غضبه ويحاول إخماد النار المشتعلة فى جوانحه. يقص فى مذكراته أنه سمح له بأن يؤدى القسم الأول له، ولم يك ذلك فى مقر مجلس الشيوخ مثلما تقتضى الأمور، ولكنه كان فى كنيسة صغيرة بجوار المستشفى الذى كان يتلقى فيه العلاج ولداه الناجيان من الحادث الذى أودى بحياة زوجته وابنته الصغيرة. من مفارقات القدر أن ابنه الأكبر الذى نجا من حادث التصادم حينها أصيب بسرطان المخ ومات عام 2015 وهو فى السابعة والأربعين من عمره، وكان يشغل حينها وظيفة المدعى العام لولاية ديلوير. كان ذلك عقب صراع مرير مع المرض. بالنسبة لبايدن تم إجراء عمليتين جراحيتين له فى المخ عام 1988. كلتاهما كانت مصدر خطر محدق به، لكنه نجا منهما بمعجزة.


أعيد انتخابه ست مرات ل مجلس الشيوخ حتى 15 يناير 2009، عندما قدم استقالته ليكون نائبا للرئيس أوباما لمدة ثمانى سنوات. كان نشيطا إبان خدمته فى مجلس الشيوخ ، فى 15 يوليو عام 1974، اختارته مجلة تايم الأمريكية واحدا ضمن 200 شخص ذوى مستقبل فى السياسة الأمريكية، مبررة اختيارها بأنه يملك الثقة والطموح. صدقت نبوءة التايم وصدق تشخيصها له فلم يقتصر طموحه السياسى على وظيفة عضو مجلس الشيوخ المرموقة وتوليه قيادة اللجان المؤثرة فيه مثل اللجنة التشريعية ولجنة العلاقات الخارجية، ولكنه تجاوز ذلك ليصبح رئيسا.


فى الانتخابات المبدئية الأخيرة تعثرفى بدايتها وخسر ولاية أيوا وكان ترتيبه الرابع ثم خسر ولاية نيوهامبشير وولاية نيفادا، وظن الجميع أنه انتهى للأبد ولم تنقذه إلا ولاية ساوث كارولينا التى فاز بها بتفوق نتيجة التنازل الجماعى من بقية المرشحين وبإيحاء من قادة الحزب الديمقراطى وتزكية القادة السود فى الولاية أصبح المرشح المنتظر للقضاء على فرص فوز المرشح الاشتراكى بيرنى ساندرز .


بعدها فاز فى غالبية الولايات ليصبح المرشح الديمقراطى ونجح فى نهاية المطاف ليبدأ فى تحقيق حلمه الكبير. إن سيرته الذاتية ومؤهلاته تجعله أكثر الرؤساء أحقية لذلك المنصب الرفيع.قبلها تقدم للترشح لوظيفة الرئاسة الأمريكية مرتين فى أعوام 1988، 2008. فى محاولة ترشحه للرئاسة عام 1988، كان أمامه مقاومة تعيين قاض اختاره الرئيس ريجان للمحكمة العليا. نجح فى ذلك وخسر السباق الرئاسى لاتهامه بالغش السياسى فى خطاباته باقتباسه مقالا دون الإشارة اليه. فانسحب وظن الجميع أنه انتهى سياسيا للأبد. فشل أيضا عام 2008.


لم ييأس ونجح فى الثالثة ليقتلع الرئيس ترامب الذى ظن هو وأتباعه أنه لا غالب له، وليكون الرئيس السادس والأربعين فى تاريخ الولايات المتحدة. إنها النهاية السعيدة لقصة مليئة بالمآسى والتى فيما يبدو محصته وجهزته.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 7