كتبت احسان الفقيه: حلم يراودني

2020.11.12 - 08:54
Facebook Share
طباعة

 لم يسْتح مارتن لوثر عندما قال يوما: ” أنا لديَّ حُلم”، فلا يستكثرنَّ القومُ عليّ أن أكون ذاتَ أحلام، تطيبُ نفسُها بما بُشّر به الخليلُ بأنَّ عليه النداءَ وعلى اللهِ البلاغ، وتلتمسُ السُّلوانَ لدى نملةٍ لم تُثنها ضآلتُها عن تحذيرِ قومِها {لا يحطِمَنَّكم سليمانُ وجنودُه}.


عشقتُ السيْر بالمعاني إلى الأماني، ولم يتكدّرْ قلمي عندما أطلق عليَّ أحدُهم “الكاتبة الوردية”، بل تركتُ العنانَ لتفاؤلي طالما كانت الأحلامُ في حيّزِ الممكن.


حلمٌ يراودني، أن نتعاملَ بمفهومِ الأمةِ الواحدة، ونثورَ على الجغرافيا، وعلى أضواءِ عقيدةِ الجسد الواحدِ تتراصُّ صفوفُنا ، نُعيد الشارد، ونستوعب المُخطئ، نفسح الطريق أمام الآخرين لتعديل المسار.


وماذا علينا لو قوّمنا المعْوجَّ بأيدينا لا بيد عمرو وزيد، فبيتُ العائلةِ يكتنف الضجيج، فلِم تفتح النوافذَ أمام لصوصِ الليل يا صاح، ويا ألفَ صاح.


أُمرنا بسد الفُرجة في الصلاة لكيلا نجعلَ للشيطانِ مكانا بيننا، فأبينا إلا التباعدَ والجفاء، فوجد الشيطانُ بغيته في المساحات الشاسعة بين أبناء الأمة.


فقط هي النفوس الشريفة التي تدرك تلك المعادلة، وما أراني إلا أتطلع إلى كعب بن مالك الذي أخّرته أمواله عن تبوك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرانه تأديبا وتهذيبا، فعاش خمسين ليلة في عزلة اجتماعية، وحيدا في بيته وقومه، وفي تلك المحنة جاءه من يصطاد في الماء العكر: “بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَد جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ”.


فما كان من صاحب النفس الشريفة إلا أن ألقى الرسالة في التنور، ولم يجعل للشيطان في البيت مجلسا، هي تلك الروح التي إليها نتوق.


حلمٌ يراودني ألا نحب جملة واحدة ، وألا نكره دفعة واحدة، فكلٌنا يصيب ويخطئ، والدولة يتعاقب عليها البر والفاجر والمصلح والمفسد، فمن الظلم أن نُحَمِّل أحدَهما ميراث الآخر، ونُصْلي من يقوم بتعديل المسار من حمم النقد غير المبرر.


ومن الظلم أن نفترض في حركاته وسكناته سوء النية.


من الظلم أن نجعل منهاجنا مخاصمة الحكام فقط لأنهم حكام.


إن دستور العدل يفرض علينا ألا نضعهم في سلة واحدة، وإنما يرفع الحاكم أو يخفضه عملُه ونهجه..


حلم يراودني برؤية أهل الثراء قد ملكوا زمام أمرهم، وتوقفوا عن تبديد ما رزقهم الله على المظاهر والتفاهات، وبلغوا الرشد في الإنفاق.


متى يدرك القوم أن المال في موضعه يُجنبهم العيش على الهوامش، فيقال لهم من بعد الممات: “مَرّ، وهذا الأثر”، لا أن يكون ملخص حياتهم: “وُلد، فعاش، ثم مات”، هكذا يكون هَمَلا زائدا على الحياة.


متى تُكرّس الأموال لإعلاء قيمة الفرد ومواكبة تطلعات الشعوب، بدلا من صناعة الطغيان والاستبداد، ومتى سيكون لأصحاب البطون الخاوية منها نصيب، أحدهم من الكويت فعل ، وتكفّل بنقل النازحين من حلب الشهباء، فهل من مزيد؟


حلمٌ يراودني أن نفقه معنى الأولويات وواجب الوقت، نعي فلسفة الالتقاء في منتصف الطريق، ولغة الأرضيات المشتركة، نركز على الكليات ونبذ الخلافات، لمواجهة طوفان الأخطار المحدقة، تبا لسيطرة الـ (أنا) تضيق بها صدور الرجال، وتغلق آفاق استيعاب الآخرين.


تسيّدت الظنون، واستوطن الحذرُ الدولَ والشعوب والأفراد، فأصبحت نظرية المؤامرة هي المهيمن، الأخ يتصيّد لأخيه، ويتسابق لأن يتغدى بغيره قبل أن يكون على مائدة سواه عشاءً، فما حالنا إلا كحال النعمان وسنمار:


كان مهندسا حاذقا بنى للنعمان ملك الحيرة قصرا منيفا، فلما اكتمل البناء، صعد الملك بحاشيته أعلى القصر، فوقف يقول متفاخرا: “ما رأيت مثل هذا البناء قط”، فقال سنمار: “لكنني أعلم موضع لَبِنة لو سحبتها لانهدم القصر”، وأخبره أنه بمقدوره بناء ما هو أفضل منه، وكان ذلك كافيا لدى النعمان ليلقيه من شرفة القصر.


حلمٌ يراودني، أن أرى التدين منهج حياة، لا انزواء في المحاريب، عملا وبذلا لا انغلاقا على التنظير، التزاما بما كان عليه الرعيل الأول، لا انسياقا مع أهواء الرجال وتأويلات من ضل سعيه وهو يحسب أنه ممن يحسنون صنعا.


أن أرى التدين كما كان في نسخته الأولى، عقيدة وشريعة، أخلاقا ونظاما، وسطية لا تطرفا، استعلاء بالإيمان في غير بطر، ورحمة في غير ضعف، فكرة لا تقبل الذوبان في كل منطق.


حلمٌ يراودني أن أرى أبناء الأمة يعبأ أعلاهم بأدناهم، وأغناهم بأفقرهم، وأرفعهم بأبسطهم، هؤلاء البسطاء الطيبون مَن لأحلامهم؟ من لطموحاتهم؟ لماذا يسقطون دائما من الحسابات؟


هؤلاء المنسيون هم من تُنصر بهم الأمة، هم الكادحون الذين تشققت أياديهم وهم يزرعون ويصنعون وينتجون، هم أهل الحشود إذا حلّ البأس، الذين يتحركون على الأرض لا على لوحات المفاتيح، فمن لهم؟


ربما كان السائق يمزح مع آينشتاين عندما قال له إنك قد مللت لا ريب من كثرة المحاضرات والمؤتمرات، فاجعلني أحاضر بدلا منك، فوجهك لا يعرفه كثير من الناس، والشبه بيننا قريب جدا.


ربما اعتبر آينشتاين كلام السائق حلما لا مجرد مزحة، فوافق على الفكرة، وفي القاعة جلس السائق بثياب العالِم أمام الجماهير يتكلم بشيء من علم آينشتاين، ولما وجّه أحدهم إليه سؤالا، أجاب: هذا السؤال أتفه من أن أجيب عليه، فلذا أُحيله إلى سائقي، فتقدم السائق (آينشتاين) وأجاب على السؤال، فلا اكترث آينشتاين بفكرة أن وجهه غير معروف، ولا صغرت نفسه حين حقق حلم البسطاء.


حلم يراودني، أن أشهد في حياتي مشروعا واحدا جامعا لأمتي، في وقت تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.


بنو صهيون اجتمعت كلمتهم، والتفوا حول هويتهم، واحتلوا الأرض، وأحكموا الخناق، هرتزل ونتنياهو يتصافحان، ساقتهم الطموحات إلى التفكير خارج نطاق الجغرافيا.


أحفاد كسرى قد عادوا من جديد، ينشدون إعادة إيوان المدائن، وارتدوا من أجله العمائم السوداء، وعاثوا في الأرض فسادا، التهموا العراق، وابتلعوا سوريا، وتنفّذوا في لبنان، وطعنوا خاصرة اليمن، وسيطول بنا الانتظار، فمشروعهم لا حدود له.


ما أحوجنا إلى:


تكتل تتكامل فيه الجهود يبدأ في الخليج، وينتهي إلى حدود عالمنا الإسلامي والعربي، تكتلٌ يرتكز على الهوية السنية أسوة بغيرنا، غير أنه يمتاز باستيعاب الأطياف والأعراق والمذاهب على أرضية المواطنة (بما حدده المنهج الرباني).


إلى عاصفةِ حزمٍ عاصفة، رحّالة جوّالة، تُلبي صرخة (وامعتصماه) أينما انطلقت، تتجاوز حدود المصالح الضيقة، وتلبي حاجة الشعوب المقهورة.


إلى وعي حكومي وشعبي في كل قُطر ، يحمله على مواجهة الأخطار خارج الحدود، فلا ينتظر أن يجلس في يوم يتباكى على من باعهم لغيره دون ثمن، ويقول كما أطلقها الثور الأخير: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.


حلم يراودني، أن أرى الكلمة يقدّسها أصحابها، تبني لا تهدم، تُجمع لا تفرق، تعبر عن معاناة الشعوب لا عن النص المكتوب، تبني الوعي لا تنسف الهوية، تنصر الحق لا تعضد الباطل، فالكلمة كما قال عبد الوهاب عزام في شوارده، لن تُخلّد على الأجيال إلا إن اتصلت بالحق والخير، وكان لها من قوانين الله في خلقه سند، ومِن إلهامه لعباده مدد.


كلمة يلقيها بصير صادق، يضرب في كل غنيمة بسهم، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها كما قال الإمام ابن القيم.


كلمة لا تنسف الخير إذا ما لاح شيء من الشر، لا تبدي المساوئ إن غلبتها المحاسن، تشير إلى العورة لسترها، تنصرف للإصلاح لا لتصيّد الأخطاء.


كلمة لا تنسى الفضائل والمعروف، ولا تقتل الانتماء لشيء من الكدر، كلمة يقولها الحر، والحر كما قال الشافعي من راعى وداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لفظة.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 2