كتبت سامية عيسى: كوميديا ترامب السوداء أم براغماتية بايدن الرمادية؟

2020.11.10 - 06:26
Facebook Share
طباعة

 من المبكّر التنبؤ بسياسات الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، الخارجية، بعد الفوضى العارمة التي تركها سلفه دونالد ترامب، واتسمت بالتهور والتهريج والشخصنة. فبعد أربع سنوات من إدارةٍ غير متزنة لملفات دولية عديدة، افتقدت، على يد ترامب، المقوّمات المنطقية، وفي ملفاتٍ بالغة الحساسية، لا تعكس التحولات التي يشهدها العالم، ولا تقيم وزنا للمخاطر المترتبة على سياسات ترامب الخارجية، إن كان في الوسع تسميتها سياسات. أما الملفات الأميركية الداخلية، وفي مقدمتها التصدّي لجائحة كورونا، فقد ترك ترامب عبئا ثقيلا وإرثا مرعبا من سوء الإدارة والانقسامات، وضع الديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية في مستوى مزرٍ، جعلت حتى أعداء تقليديين لها عبر العالم يخشون من التخبط الذي لم يعتادوه على القوة العظمى الأكثر تأثيرا في العالم والأكثر نفوذا، على الرغم من التنامي الهائل للصين بوصفها قوة منافسة. وقد انعكست هذه الخشية في الداخل الأميركي، كما في خارجه، قلقا وعدم استقرار، وتخوفا من النزوع نحو العنصرية وممارسات استعلائية تشبه، إلى حد كبير، ممارسات ديكتاتوريين كثر، كمعمر القذافي في ليبيا وعيدي أمين في أوغندا وعبد الفتاح السيسي في مصر وقادة شعبويين عديدين، يفتقدون أدنى مستويات الحوكمة الرشيدة. لكنها أربع سنوات فقط، تنفس بعدها الأميركيون الصعداء خصوصا، وشعوب كثيرة عموما، من عدم فوز ترامب بولاية ثانية، وما قد يعنيه ذلك من كوارث تتفاقم لتزعزع الاستقرار في داخل أميركا وخارجها.


وأبلغ مثال على هذا طريقة إدارته التعامل مع الاحتجاجات ضد العنصرية بعد مقتل الأميركي من أصول أفريقية، جورج فلويد، خنقا تحت حذاء شرطي أبيض، وفشله الذريع في مواجهة الجائحة، وما تسببت به من تراجع اقتصادي حاد، وتسببت بعشرات الآلاف من الوفيات وملايين الإصابات، بل كانت الجائحة في الولايات المتحدة الأسوأ في العالم، جعلت من إدارة ترامب مصدرا منتجا للأزمات والفشل وانعدام المسؤولية، سيما أيضا في مسائل تتعلق بالمصالح الأميركية التي إما تجاهل ترامب رعايتها أو أدارها بشكل سيئ ومتهور، مثل ما فعل في إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، غير عابئ بالفلسطينيين، وما تمثله القدس من رمزية دينية لمليار ونصف مليار مسلم عبر العالم. كما انسحابه من "اتفاقية باريس للتغير المناخي"، كما انسحابه المسيء من منظمة الصحة العالمية، في عز تفشي فيروس كورونا. زرع ترامب القلق، في كل لحظة حكم فيها، بسبب عدم القدرة على توقع سياساته أو تحليلها وفق المنطق العلمي للتحليلات السياسية ومنطق البداهة. رزح العالم تحت رحمته، لأن قرارته وسياساته مؤثرة، بوصفه رئيس أكبر قوة عظمى تقود العالم، حتى وإن كانت تقوده وفق مصالحها. ولكن مع ترامب، لم تكن هذه المصالح ظاهرة في سياساته، أو يقيسها بميزان دقيق. بل على العكس، قاد أميركا والعالم بعقلية رجل أعمال وتاجر أقرب إلى بائع خضار في سوق شعبي رخيص، يقيم الصفقات ويدير سياسة خارجية فظّة واستعلائية، ويغرّد على "تويتر"، كما لو كان دمية يتلهى بها، ويهاجم خصومه أحيانا بنرجسية فاقعة، سيما وسائل الإعلام ممن ينتقدون سوء إدارته، وهذا غيض من فيض.


الناحية الإيجابية لعهد ترامب أنه كشف الوجه الحقيقي للفظاظة والصفاقة الأميركية للقوة العظمى، ذات الوجه القبيح المغلف بقناع ترقّ سماكته وتقسو، بحسب ما تتطلبه مصالح "ثلة وول ستريت" من رجال المال والأعمال، والتي يعمل الساسة الأميركيون من رؤساء وكونغرس ومجلس شيوخ في خدمة مصالحها، في تلطيف مقنع للديمقراطية والقيم الأميركية كما نعرفها، والتي لم تخرج بعد عن سجلها في إبادة السكان الأصليين، عبر شن الحروب وسفك الدماء في أرجاء المعمورة ودعم الديكتاتوريات هنا ومواجهتها هناك، فضلا عن نظام الأبارتهايد الصهيوني في فلسطين المحتلة، بحسب ما تقتضيه المصالح الأميركية أو تلك الثلة التي تتربع على عرش النظام المالي العالمي في "وول ستريت" والنيوليبرالية المتوحشة التي تتحكم باقتصاديات العالم، بما لا يسمح لأيٍّ منها بالخروج عن استبداديته. هذا الوجه الفج لترامب نسخة كاريكاتورية عن النظام الأميركي الذي ما زال يمارس الاستعباد المقنع للأميركيين الأفارقة، رغم أنف الدستور والتعديل الـ13 بإلغاء العبودية، فيما تتواصل السياسات الأميركية في معظم الولايات بممارسة التمييز ضد ما يسمونهم السود، هذا فضلا عن أقليات عديدة غير البيضاء للمهاجرين، في مجتمع مهاجرين بدأ سيرته التاريخية بإبادة السكان الأصليين والاستيطان الاستعماري وممارسة العبودية في أبشع صورها. 


بعد خسارة ترامب الانتخابات الأميركية، احتفل عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف، في ولايات عديدة، بهذه الخسارة، أكثر مما كان احتفالا بفوز بايدن. وربما يعرف الأخير ذلك، بل استثمر بكره الناخبات والناخبين لترامب في حملته الانتخابية، علنا وضمنا. ولكن في المقبل من الأيام، يتوقع أن يعود بايدن إلى السياسات الأميركية المعتادة في أكثر من ملف في السياسة الخارجية أقله، وهو ابن هذه السياسة والخبير فيها وبملفاتها، نظرا إلى تجربته العريقة في السياسة الخارجية على مدى نحو خمسين عاما في دوائر صنع القرار، سيناتور متمرس، بنى خبرته منذ كان في التاسعة والعشرين من عمره. وهذا ما يمنحه حرفية عالية في السياسة الخارجية، تعيد لملمة ما تصدّع منها، بأقنعةٍ ترقّ وتقسو، بحسب المصالح الأميركية، مع فارق أنه الرئيس هذه المرّة. ربما يصدق بتصريحاته، في خطاب الفوز، بشأن إصدار قوانين تمنع التمييز على أساس النوع والجنس، سيما باختياره امرأة في موقع نائبة الرئيس، لأول مرة في تاريخ أميركا، ويبدو أنها ستلعب الدور الأهم في التغيير في سياسة بايدن الأميركية الداخلية، فقد جاءت كامالا هاريس من أوساط الشباب في الحزب الديمقراطي، ذات التوجهات اليسارية، ومدّعية عامة، تتقن لغة القانون والحقوق، وهي ذات أصول ملونة (أمها هندية ووالدها من جامايكا)، كما باراك أوباما، ما يمنحها صدقية في التعامل مع المخلفات العنصرية حيال الأميركيين الأفارقة، والتمييز ضد الأقليات العرقية، كما النساء وحقوقهن، وأيضا في استصدار قوانين ملزمة لحماية البيئة. ويبدو أن إرث أوباما سيستعاد مع جو بايدن وكامالا هاريس، سيما ما رأيناه من دعم غير مسبوق منه (أوباما) لكليهما، وكيف وضع كل ثقله ونجوميته الرئاسية في حملتهما الانتخابية، كما لم يفعل أي رئيس أسبق، مستفيدا من الثغرات التي شابت حملة هيلاري كلينتون الانتخابية عام 2016، ومن شخصية دونالد ترامب المكروهة لدى قطاعات واسعة. 


سيكمل بايدن من حيث انتهى أوباما، مع فرق سعيه إلى بناء ما هدمه ترامب، وما يواجهه العالم من تحوّلات وتحدّيات كبيرة، تسارعت وتيرتها، وزاد فيروس كورونا من مضاعفاتها، كما الداخل الأميركي الذي يتطلع إلى تغييرات سريعة لا تحتمل الانتظار، سيما في قطاعات الصحة والاقتصاد والتعليم وتعزيز العدالة الاجتماعية، وسط هذه الجائحة المرعبة التي هي أولوية بديهية وعاجلة.

أما ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية والصراع العربي الإسرائيلي خصوصاً، فهنالك متغيرات ستطرأ على ملفات عديدة، سيما في مسألة استئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني وحل الدولتين، وإعادة إقرار المساهمة الأميركية في موازنة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) فضلا عن كبح الاستيطان، ووقف عمليات ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية لإسرائيل. أما استكمال اتفاقيات التطبيع فستتواصل، ولكن بغير عجلة، مع فرض علاقات أكثر جدّية واحترافا مع دول الخليج، تأخذ بالاعتبار التهديدات الإيرانية، وإعادة فتح مسار الاتفاق النووي الذي قد تطرأ عليه تعديلات، تتعلق بكبح جماح إيران، في عملها المتواصل على زعزعة الاستقرار في المنطقة العربية، فضلا عن مصالح الولايات المتحدة بملف النفط والغاز وقضايا تتعلق باستعادة سمعة أميركا بوصفها القوة العظمى الأولى، وهي ملفات تتعلق ببعضها بعضا وتتبادل التأثير. 


أما الملف الأهم لبايدن، فهو ترتيب العلاقة مع الصين، وعبر دبلوماسية نشطة ستتسم بالبراغماتية والواقعية، ولكن سيغلب عليها نوع من الرمادية، حتى تتضح الأمور لبايدن بعد أربع سنوات من التخبط. سيسعى إلى وقف تغلغل الصين الاقتصادي والسياسي في العالم على حساب النفوذ الأميركي، وهو ما لم يُعره باراك أوباما الأهمية اللازمة في فترة حكمه، وأداره ترامب بعدوانية فظة. والمتوقع أن يدير بايدن هذا الملف بحنكةٍ تستند إلى مهنية عالية وخبرة عريقة، سيما بعد أن افتقد العالم للقيادة الأميركية، في وقت لم تجهز أية قوة صاعدة لأن تكون البديل المقبول، سيما الصين.


المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 5 + 9