عن "الآيفون 12".. والعصفورية السوريالية!

وكالة أنباء آسيا - كمال عيسى

2020.10.27 - 11:21
Facebook Share
طباعة

 تهافت عشرات السوريين لحضور أغرب عرض سوريالي ساخر في العاصمة التي باتت تعج بشتى أنواع الغرائب والتناقضات والمفارقات التي يتفق معظم السوريين على وصفها بـ"الفجة إلى درجة الوقاحة".

الحدث: شركة سورية مملوكة لأحد وجوه الحرب الجدد، تحتفي بإطلاق أحدث نسخة من الهواتف الأمريكية الذكية "آيفون 12" عقب عشرة أيام على إطلاقه في بلد المنشأ، وقبيل إطلاقه في أيّ من عواصم الشرق الأوسط اللاهثة وراء كل جديد في عالم التكنولوجيا، وخاصةً الأمريكية منها.

عنصر الغرابة والتناقض ليس في السرعة التي وصلت فيها الإصدارات الحديثة من الآيفون إلى السوق السورية؛ بل كيف وصلت إلى بلد موضوع على قائمة العقوبات الأمريكية الأشد، بما فيها الشركة والشخص الذي استورد أجهزة الآيفون الحديثة!

ليس هذا فحسب؛ بل إن ما يروّع السوريين ويصيبهم بالدهشة الممزوجة بالمرارة هو: كيف تصل أحدث التقنيات إلى البلاد المعاقًب نظامها بقانون قيصر، بما فيها الهواتف الذكية والسيارات الفارهة وعشرات السلع الكمالية، فيما تفشل الحكومة والتجار، بمن فيهم أثرياء الحرب الجدد باستيراد المواد الأساسية الضرورية لحياة السوريين، كالوقود والقمح والأدوية، والتي كان مردّ شحها وفقدانها من الأسواق هو العقوبات الأمريكية، التي باتت مشجباً جاهزاً لإشهاره في وجه كل من يتجرأ على اتهام السلطات بالتقصير والفساد.

لا تسألوا عن سعر الاختراع الجديد، فـ"حقو فيه" كما يؤكد سماسرة الوطن، فما هي قيمة الألفي دولار لقاء آخر ابتكارات التكنولوجيا الأمريكية الأثيرة على قلوب النخبة الجديدة من السوريين، وماذا يساوي هذا الرقم في الحسابات المليارية لهم، وهم الذين لم يدخروا سابقاً أي جهد في جمع ثرواتهم البليونية خلال أقسى سنوات الحرب وأشدها هولاً؟

 ثلاثة ملايين ليرة.. أربعة.. خمسة؟ وماذا يعني، هل تعتقدون بأنها مبالغ كبيرة على فلذات أكبادهم و"محظياتهم" وأزلامهم الأوفياء ممن وصلوا الليل بالنهار هم أيضاً، ودفعوا أثمان باهظة لقاء تبييض أعمال آبائهم وأسيادهم، ورفد اقتصاد الوطن بنخبة من الاستثمارات "الذكية" وبطبقة جديدة من رواد الأعمال "الحرابيق"؟   

يتداول السوريون بكثرة خلال سنوات الحرب مصطلح "عصفورية" للدلالة إلى ما آلت إليه أمورهم وحال بلادهم، مشبهين إياها بـ"العصفورية" أو ما يعني "سجن المجانين"، نتيجة غرابة الأحداث وتناقضاتها، والتي  تصل أحياناً إلى درجة "السوريالية". و"السوريالية" هي اتجاه مُعاصِر في الفن والأدب يذهب إلى ما فوق الواقع، ولكنه مؤخراً، وتحديداً في السنوات الثلاث الأخيرة، انتقل إلى مجمل التفاصيل اليومية في حياة السوريين.

 وبالفعل، يمكن إدراج ما حدث ليلة أمس في صالة عرض "إيماتيل" ضمن الأحداث فوق الواقعية، فمن يستطيع فهم الأسباب التي تجعل البلد الأكثر فقراً وبؤساً ودماراً وانقساماً، والخاضع لأكثر العقوبات الأمريكية والأوروبية تشدداً، فضلاً عن العقوبات "الربانية" التي لا يمكن نكرانها في كل ما تشهده البلاد والعباد، إذاً؛ مالذي يجعل مثل هذا البلد يترك كل أولويات شعبه الجائع والمفقّر والمنقسم ليتنطح لاستيراد أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الأمريكية "الامبريالية" في مجال الموبايلات؟

لا جواب بالتأكيد، فالسوريالية لا تحتاج إلى فهم ومنطق، هي هكذا؛ مدرسة قائمة بحد ذاتها ومنعزلة عن كل ما حولها. مدرسة تم تأسيسها خصيصاً لتكون الجواب على كل ما يعجز البشر عن فهمه واستيعابه.

قد يقول قائل "وما مسؤولية الدولة أو السلطة أو الحكومة" في هذه المسألة، إذا كان أحد "رجال الأعمال" الجدد الذين عوّمتهم الدولة والسلطة والحكومة عن سابق تصميم وتخطيط ليتبؤوا المشهد السوريالي السوري خلال السنوات الأخيرة؛ ما ذنبها إن كان هؤلاء قد ركبوا فيما ركبوا، موجة السوريالية ليصبحوا روادها الجدد بلا منازع؟

وبالفعل، لا يمكن لسلطة ما في بلد يحترم "رواده" أن تضع حداً للريادة والعبقرية التي تتفتق بها مخيلات محدثي النعمة من "الرواد" الذين سبق أن تفننوا وأبدعوا في تحويل مأساة شعب كامل إلى منجم ذهب لا ينضب؟ 

إذاً؛ لا تلوموا هذا المتمول، أو ذاك من الرواد "الطارئين" الذين ارتقوا في سلم المجد بين ليلةٍ وضحاها، وتحولوا من بائعي فراريج وعاملين مياومين في أكشاك الدخان والمهربات ليصبحوا واجهة البلاد الاقتصادية والشخصيات الأكثر نفوذاً وتأثيراً في سوريا ما بعد "النصر"، لا تلوموا هؤلاء الذين عرفوا "من أين تؤكل الكتف" في بلد بات لزاماً عليك لكي تعيش فيه أن تتفنن في أكل الأكتاف والأرزاق والتهام الأخضر واليابس. بلد تحول إلى مزرعة يسودها القوي والنافذ والمتمول على حساب ملايين الجائعين والمقهورين الذين بات اختصاصهم الوحيد هو الوقوف في طوابير الذل والعار.

يتحدث السوريون بصوت مسموع هذه الأيام بأن هذه البلاد "ما كانت بلادهم" لم تعد لهم، هم بالكاد يعرفونها اليوم وسط هذه التحولات الفاقعة التي تصيبها في الصميم وتصيبهم في مقتل، لم تعد "تحنّ" عليهم وتطبطب أوجاعهم وآلامهم، إنها تضيع من بين أيديهم وتتسربل من بين أصابعهم كما الماء، خيراتها تضيع بين سوء الإدارة الممنهج وجشع المرتزقين، فلا يحصدون منها سوى الوعود الهباء، تكويهم هذه البلاد في نكرانها لهم ولتضحياتهم، وتخذلهم في انحيازها الغريب للمرتزقين والمتاجرين بها، يتساءل البعض: هل هي متلازمة استوكهولم تلك التي أصابت دمشق؟

لم تعد هذه دمشق التي نعرفها – يقول أهل البلاد - ولا تشبه الحد الأدنى مما نقبض عليه من صورتها في ذاكرتنا القريبة، دمشق اليوم تشق طريقها نحو التوحش، مدينةً يستبيحها أثرياء الحرب ومحدثي النعمة والمقاولين وحثالة البشر، وأما عشاقها من الفقراء والطيبين؛ فإما هم في طوابيرهم يتسولون دعماً لا يسد الكفاف، أو هائمين في الشوارع بلا سقف يأويهم أو يدٍ تمتد لتحنو على مصيبتهم وآلامهم.

هم ليسوا أكثر من شهود على الخراب الكبير، أما مستقبلهم فيبدو مرسوماً ومعداً مسبقاً، فهم في أحسن الأحوال سيكونون منتفعين على موائد النخبة الجديدة وخدم في فيلاتهم وقصورهم، وقوّادين في بيوت دعارتهم الحالية والموعودة.. إنهم باختصار؛ موظفون في اقتصادياتهم القذرة القائمة على الاستهلاك والاستيراد، في وكالاتهم الحديثة ومولاتهم الفخمة ومتاجرهم الفاخرة والزاخرة بأحدث صرعات الموضة العالمية وأحدث أنواع "الآيفون" المقاوم للأعطال والصدأ والمياه، والممانع للعقوبات وكل قياصرتها!

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 2