اللیرة اللبنانية بين الاستقرار... والانھيار

زھراء أحمد - وكالة أنباء آسيا

2020.08.27 - 01:12
Facebook Share
طباعة

 
 
بعد نيل الاستقلال سادت لبنان وجهة نظر اقتصادية، تقول بضرورة تخصص لبنان في الخدمات التجارية والمصرفية والسياحية، ولعبت بيروت دور المركز الإقليمي الوسيط بين الاقتصادات الغربية المتطورة والمحيط العربي. وقد أتت الظروف الإقليمية لتساعد وتدفع هذا الاتجاه نحو سياسات اقتصادية في لبنان، يهيمن عليها حصرياً، مبدأ تشجيع القطاعات الخدماتية على حساب القطاعات الإنتاجية، الزراعية والصناعية. فالانقلابات العسكرية التي حصلت في دول الجوار وتحوُل اقتصاداتها الى اقتصادات اشتراكية مقفولة، وكذلك رجال المال والأعمال الذين وجدوا في لبنان جو الحرية الاقتصادية، كل ذلك كان من العوامل التي أعطت دفعة قوية للإقتصاد اللبناني، هذا بالإضافة الى قدوم اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان والذين أصبحوا يداً عاملة رخيصة، مما زاد من ربحية المنشآت الاقتصادية.
عندما وصل الرئيس فؤاد شهاب الى سدة الحكم عام 1958، عمل على تغيير السياسات الاقتصادية التقليدية السائدة، ولم يتوان عن العمل بمبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد، فأقام العديد من المؤسسات ليصبح الاقتصاد الوطني قوياً ومتوازناً . وقد أسس البنك المركزي وأصدر قانون النقد والتسليف. كما انشأ مصلحة الإنعاش الاجتماعي ووضع أسس إقامة صندوق الضمان الاجتماعي.
وتمت كل هذه الإنجازات في ظرف سنين معدودة ومن دون أن يترتب على ذلك أي مديونية تُذكر على الخزينة اللبنانية. وعرف لبنان من جراء السياسات الشهابية فترة ازدهار لا مثيل لها في تاريخه الحديث. ”وللتذكير تجدر الإشارة الى ان معدلات ضريبة الدخل التصاعدية كانت تصل الى 43% على الشطور العليا من الدخل من دون أن تثير أي شكوى من قبل فعاليات القطاع الخاص“. لكن بعد رحيل الرئيس شهاب من السلطة، عادت السياسة الاقتصادية اللبنانية الى سابق عهدها، مع العلم ان الصادرات من المنتجات الزراعية والصناعية كانت قد ارتفعت بشكل كبير جداً، تحت تأثير الإصلاحات الشهابية من جهة، والطلب المتزايد على المنتجات اللبنانية من الدول العربية، التي بدأت تغتني بسرعة فائقة، على إثر ارتفاع أسعار النفط مع بداية السبعينيات من القرن الماضي من جهة اخرى. غير ان المناطق الطرفية وبشكل خاص الجنوب وعكار والبقاع لم تستفد من معدلات النمو العالية التي عرفها لبنان خلال عهد الرئيس شهاب وبعده، مما خلق جواً دافعاً لانخراط الجيل الشاب في الأحزاب السياسية العقائدية التي بدورها انخرطت في النزاعات الإقليمية والمحلية .
التطورات اللبنانية على عكس تطورات المنطقة، فقد كانت التطورات فيھا خلال هذه السنين سلبية للغاية، تبدأ من نزيف بشري لا مثيل له خصوصاً على مستوى الأدمغة والكوادر والمهن الحرة. فقد تأخر لبنان عن مواكبة تطور التقنيات العصرية في جميع الميادين، مع الإشارة الى الجهود الجبارة التي بذلها القطاع الخاص خلال الحرب للبقاء، وإيصال المنتوجات والخدمات الى المواطن، مهما كلف الأمر في الظروف الأمنية والعسكرية القاسية، كما ينبغي الإشارة الى الجهود المبذولة من قبل الادارات العامة لتوفير خدماتها للمواطن، إلا أن تدمير قدرات الإنتاج نتيجة الأعمال الحربية، والنهب المنظم من قبل الميليشيات المتصارعة، أدى الى تضاؤل القدرات الإنتاجية في كل من القطاع الزراعي والصناعي والسياحي . هذا بالإضافة الى نهب الممتلكات الخاصة وتدمير الكثير من الأبنية السكنية وفقدان الأرواح الكثيرة. غير انه من الضروري الإشارة الى ان لبنان بالرغم من فقدان الدولة الجزء الأكبر من مواردها الضريبية خلال الحرب، قد خرج منها بمستوى مديونية داخلية مقبول، كان يعادل (7,1 مليار دولار في نهاية 1990)وبالاحتفاظ بالمخزون الهام من الذهب في البنك المركزي (اي 9 ملايين اونصة) وبنظام مصرفي قد صمد الى حد بعيد طوال سنوات الحرب، وعمل بانتظام تحت أقسى الظروف، وبقيت ثقة المواطن اللبناني بنظامه المصرفي والمالي. والجدير بالذكر هنا انه رغم تدهور سعر صرف الليرة بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فإن هذا التدهور توقف ابتداءاً من عام 1988 حيث راح سعر الصرف يتأرجح بين( 350 ليرة و879 ليرة للدولار الواحد) .
اما في الوقت الراھن فإن الإرتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار في الأسواق المحلية مقارنة بالليرة أصبح هاجساً يلاحق المواطن اللبناني في أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث، اذ خسر عشرات آلاف اللبنانيين وظائفهم أو جزءاً من رواتبهم، وتآكلت قدرتهم الشرائية، فيما ينضب احتياطي الدولار لاستيراد مواد حيوية مدعومة كالقمح والأدوية والوقود. وتخلّف لبنان في آذار/مارس وللمرة الأولى في تاريخه، عن تسديد مستحقات سندات "اليوروبوندز"، التي تبلغ قيمتها الإجمالية أكثر من ثلاثين مليار دولار ،ثم طلب مساعدة صندوق النقد الدولي الذي لم يلمس ممثلوه جدية من الوفد اللبناني، فلا أحد يريد الإصلاح بسبب تصارع كل جهة من أجل مصلحتها الخاصة، بينما يترك البلد ينحدر إلى الهاوية، في حين ان شروط صندوق النقد بايقاف دعم الوقود والمحروقات والقمح وغيرها، سوف تثقل كاهل المواطن الذي يعاني اصلاً من انخفاض قدرته الشرائية.
خبراء الاقتصاد يعتقدون أن إصلاح النظام النقدي ووقف الهدر العام والاستفادة من الناتج القومي وتحويله إلى قنوات تأتي بمردود اقتصادي، من شأنه أن يحسن دخل الفرد وترشيد استهلاك النفقات العامة والاكتفاء بالاساسية منها، وإصلاح إداري شامل وجدي مع زيادة رواتب القطاع العام، منعاً لسهولة الإفساد وتقديم الرشاوى، هذا بالاضافة الى تحقيق اللامركزية بنقل بعض مهام الدولة في الشأن الاجتماعي والتربوي الى البلديات واتحادات البلديات، بالترافق مع نقل جزء من الموظفين المعنيين في جهاز الدولة المركزي الى الاجهزة المحلية وترشيد عدد الموظفين في الإدارات المختلفة.
كل ما سبق لا يمكن أن يحدث خلال أيام أو أشهر، بل يحتاج فترة زمنية لأن التحسن والنمو الاقتصادي، يحتاج إلى خطوات كثيرة وجدية، ولأن الحكومة اللبنانية تدرك ذلك، فإنها تسعى لإسعاف البنك المركزي بمنح ومساعدات من صندوق النقد الدولي، في ظل العزل الدولي الذي يعاني منه لبنان .
 
Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 8