الكونفوشيوسية لا تساعد على التغلب على فيروس كورونا

2020.04.17 - 07:54
Facebook Share
طباعة

 لا تفسر المجازات الثقافية نجاح كوريا الجنوبية في مكافحة “كوفيد- 19”. عندما يبدو أن السياسة الاجتماعية تعمل بشكل جيد في بلد آسيوي (عادةً اليابان، وكوريا الجنوبية مؤخرا)، يسارع الغربيون -الأميركيون على وجه الخصوص- إلى الادعاء بأن مثل هذه السياسة كانت ممكنة التطبيق فقط بسبب طبيعة سكان آسيا الذين يفترض أنهم وديعون ومذعنون، ويعيشون في مجتمعات يفترض أنها متناغمة. لكن هذا الانسجام موجود فقط في خيال عنصري يسترشد برؤية “استشراقية”.

* *
في حين يجتاح وباء “كوفيد- 19” الولايات المتحدة وأوروبا ويعيث فيهما فساداً، تحظى استجابة كوريا الجنوبية لهذا الوباء بالثناء والتقدير من جميع أنحاء العالم. فقد سمح النطاق الواسع غير المسبوق والكفاءة التي لا مثيل لها لخطة إجراء الاختبارات والحجر الصحي في البلد لكوريا الجنوبية بإيقاف تفشي فيروس كورونا؛ حيث انخفض عدد الحالات الجديدة إلى حوالي 100 حالة في اليوم من ذروة بلغت نحو 900 حالة جديدة في اليوم في أواخر شباط (فبراير). وبالإضافة إلى قدرات إجراء اختبارات الكشف عن المرض في كوريا، أبدت وسائل الإعلام الدولية إعجابها بمرافق “الفحص بمرور المركبة”، والتتبع المفصل لتحركات مرضى فيروس كورونا أو الذين في الحجر الصحي الاحترازي، والاستجابة الهادئة من الجمهور الذي يشتري نفس كمية ورق التواليت التي كان يشتريها من قبل بلا زيادة.
ربما بطريقة يتعذر تجنبها، قدمت بعض وسائل الإعلام تفسيرات ثقافية اختزالية لهذا النجاح. وكان أحد التفسيرات الشائعة أن الكوريين شعب أقل فردية، وأكثر توجهاً نحو المجتمع، وأكثر استعداداً للتضحية من أجل الصالح العام. وعلى سبيل المثال، زعم مقال في صحيفة “نيويورك تايمز” أن “الثقة الاجتماعية أعلى في كوريا الجنوبية منها في العديد من البلدان الأخرى، ولا سيما الديمقراطيات الغربية التي تعاني من الاستقطاب وردود الفعل الشعبوية”. وقال تحليل في صحيفة “وول ستريت جورنال” إن “البصمة الثقافية المقيمة للكونفوشيوسية تمنح الدولة الأبوية يدا أكثر حرية للتدخل في حياة الناس الخاصة أثناء الطوارئ”. واقترح العديد من المحللين أن الغربيين المحبين للحرية لن يقبلوا بطريقة تعقب كوريا الجنوبية لتواصل الأفراد واتصالاتهم، لأن الجمهور الغربي يرفض غزو الخصوصية الذي يرصد تفاصيل كل موقع يزورونه أثناء حملهم الفيروس.
وهذا هراء، ويكرر فقط الخطأ نفسه الذي سمح لفيروس كورونا بالتفشي في الولايات المتحدة وأوروبا في المقام الأول: خطأ النظر إلى آسيا باعتبارها “آخَر” غير ذي صلة، ومكاناً مختلفاً تماماً عن الغرب لدرجة أن أي تجربة أو معرفة هناك غير قابلة لنقلها إليه. وتعاني الولايات المتحدة وأوروبا من “كوفيد- 19” بهذه الطريقة القاسية لأنهما اعتبرتا الفيروس “مرضًا آسيويًا”، غير قادر -بطريقة ما- على الوصول إلى شواطئهما. وهما الآن عرضة لخطر رفض أفضل الممارسات لمكافحة الوباء لأنهما تتخيلان “حلولاً آسيوية” حصرية لا يمكن تكرارها مطلقاً في بلدانهما.
ينتمي هذا التفكير إلى نمط قائم منذ وقت طويل من “الاستشراق”. فعندما يبدو أن السياسة الاجتماعية تعمل بشكل جيد في بلد آسيوي (عادةً اليابان، وكوريا الجنوبية مؤخرا)، يسارع الغربيون -الأميركيون على وجه الخصوص- إلى الادعاء بأن مثل هذه السياسة كانت ممكنة التطبيق فقط بسبب طبيعة سكان آسيا الذين يفترض أنهم متجانسون، ويعيشون في مجتمعات يفترض أنها متناغمة. ومع ذلك، فإن هذا الانسجام موجود فقط في خيال عنصري يتخيل مجتمعًا مكونًا من آسيويين وديعين ومذعنين. وفي الحقيقة، ليست كوريا الجنوبية على وجه التحديد ذلك المجتمع الروحاني الطائفي الجماعي من النوع الذي يحب الأميركيون تخيله بأي طريقة. ففي دراسة أجرتها في العام 2018 منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كانت درجة كوريا الجنوبية لـ”متوسط الثقة في الآخرين” مجرد 0.32 في العام 2014. وقد تفوقت على هذه الدولة في المرتبة ما توصف بالمجتمعات الغربية الفردية، مثل النرويج (0.68)، والسويد (0.65)، وهولندا (0.54)، وكندا (0.44) -وحتى الولايات المتحدة (0.41).
لم يتخط الاتجاه المعاصر للسياسات القاسية المستقطبة المشحونة للغاية بسبب الإنترنت كوريا الجنوبية. وإذا كان ثمة شيء، فهو أن كوريا الجنوبية كانت في طليعة هذا الاتجاه؛ حيث اعتمدت تلك الدولة تقنيات الإنترنت عالي السرعة على نطاق واسع في وقت أبكر من أي دولة في العالم. وقبل أن تعرف أميركا ما هو الـ”يوتيوب”، كانت كوريا الجنوبية تتعامل مسبقاً مع التداعيات السلبية لتفاعلات المجتمع المتكوِّن في الإنترنت، مثل التنمر السيبراني وحملات الإعلام المضلل. وقبل أعوام من تدخل المخابرات الروسية في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016 وإجراء الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان الرؤساء المحافظون في كوريا الجنوبية يستخدمون شبكات التجسس الخاصة بهم لنشر ملايين التغريدات المزيفة من أجل تغيير وجهة الانتخابات.
وحتى خلال جائحة فيروس كورونا، ظلت سياسات كوريا الجنوبية منقسمة كما كان حالها دائماً. وكان أحد الفصول المريعة ذلك الخلاف الصاخب الذي شمل فريق الخبراء الطبيين الذين يقدمون المشورة للرئيس. ولطالما انتقدت الجمعية الطبية الكورية، وهي مجموعة مصالح تمثل الأطباء في كوريا الجنوبية، الرئيس الليبرالي مون جاي إن، الذي عمد في رأيها إلى توسيع نطاق التأمين الصحي الوطني لكوريا الجنوبية على حساب الأطباء. ومع وصول “كوفيد- 19” إلى ذروته في كوريا الجنوبية في أواخر شباط (فبراير)، طالب تشوي داي جيب، رئيس الجمعية الطبية الكورية (ومؤسس جماعة فاشية زعمت أنها وريثة الجماعات التي ذبحت المدنيين خلال الحرب الكورية) إدارة مون بإقالة وزير الصحة والرفاه، ورئيس لجنة الاستشارات الطبية الرئاسية. ولإرضاء الجمعية الطبية الكورية وحماية أعضائها من الهجمات السياسية، قررت لجنة الاستشارات أن تحل نفسها طواعية. وهكذا، في خضم أخطر جائحة يشهدها العالم منذ قرن، تسببت سياسات كوريا الجنوبية في توقف أبرز الخبراء في مجال الأمراض المعدية عن تقديم المشورة للرئيس.
لا شك في أن الثقافة شيء حقيقي يرشد تصرفات الناس. ومن الممكن تماما إجراء نقاش معقد، على سبيل المثال حول كيف أثرت الكونفوشيوسية على طريقة استقبال الجمهور الكوري الجنوبي لاستجابة الحكومة لفيروس كورونا. (يقدم الفيلسوف الكونفوشيوسي القديم، منسيوس، مادة غنية عن الحوكمة العملية فيما يتعلق بشبكة الالتزامات الكونفوشيوسية بين الحاكم والرعايا). لكن من الغريب حقاً أن مناقشة وسائل الإعلام الغربية للتراث الكونفوشيوسي الكوري الجنوبي لا تشير أبدا إلى النصوص الكونفوشيوسية الفعلية. وبدلاً من ذلك، كانت الكونفوشيوسية بالنسبة لها مجرد عذر لتكرار القوالب النمطية القديمة المهترئة عن الآسيويين وإطلاقها مثل طائرات طائشة الصواب بلا طيار، جاهلة بالمعنى الحقيقي للحرية. ومع احتدام تفشي الوباء عبر الغرب كله، لا تتحول المناقشة حول “الثقافة الشرقية” إلى محاولة للتنوير، وإنما تتركز حول البحث عن عذر لبقائنا غارقين في الظلام.
في نهاية المطاف، يعود نجاح كوريا الجنوبية في مكافحة الوباء إلى القيادة الكفؤة التي ألهمت ثقة الجمهور. لم ينصح أي نص كونفوشيوسي مقدّس مسؤولي الصحة الكوريين باستدعاء الشركات الطبية وإخبارها بتكثيف القدرة على إجراء الاختبارات عندما كان لدى كوريا أربع حالات معروفة فقط بالإصابة بـ”كوفيد-19″. ولم تكن هناك أي حكمة آسيوية جعلت الأطباء الكوريين يعتقدون بأنه يجب عليهم إجراء الاختبار لكل شخص يعاني من أعراض الالتهاب الرئوي، بغض النظر عن تاريخ سفره، وهو ما أفضى إلى اكتشاف “المريض 31” الشهير وقمع تفشي بؤرة فيروسات كورونا الضخمة في مدينة دايجو بسبب طائفة شينشونجي الدينية السرية. ولا يتهافت الجمهور الكوري الجنوبي على تخزين ورق التواليت -ليس لأنهم أغنام محرومون من الرغبة في الاستقلالية والقدرة على التصرف بمفردهم، وإنما لأنهم رأوا بوضوح أن حكومتهم ملتزمة بالشفافية، ووثقوا في أنها تعمل لمصلحتهم.
يمكننا أن نجري نقاشاً عن الدور الذي لعبته الثقافة الكورية في كل من هذه التطورات، ولكن لا يخالطنكم أي شك: لا يوجد شيء في ثقافة أي دولة يحول دون تطبيق أي من هذه الاستجابات لمكافحة الوباء.
من السخف أن يقترح أحد، على سبيل المثال، أن الأميركيين والأوروبيين لن يخضعوا أبدا لذلك النوع من تعقب التواصل عالي التقنية الذي استخدمته كوريا الجنوبية، عندما يتخلى الملايين منهم طوعا عن بياناتهم الشخصية لأمثال “غوغل” و”فيسبوك” كل يوم. (في الواقع، تستخدم حكومة الولايات المتحدة مسبقاً بيانات تحديد الموقع الجغرافي في إعلانات الهاتف المحمول لدراسة انتشار فيروس كورونا). ولا ينبغي لأحد أن يكون متهورا لدرجة الادعاء بأن الفكرة الغربية للحرية تجبرنا على عدم القيام بأي شيء لوقف تفشي الفيروس الذي من المتوقع أن يتسبب بمئات الآلاف من الوفيات، أو أن تطبيق إغلاق عام على مستوى البلاد سيكون أكثر اتساقا بطريقة ما مع مفهوم الحرية من فرض حجر صحي مناسب للمرضى الأفراد، والذي يسمح لبقية المجتمع بالمضي قدماً.
على الرغم من أن “كوفيد- 19” نشأ من الصين، فإن أوروبا والولايات المتحدة تواجهان وطأة الوباء لأنهما فشلتا في أخذ الفيروس على محمل الجد. كان العالم الغربي منشغلاً للغاية بالسخرية من رد فعل الصين الخامل وغير الشفاف، والتحريض على العنصرية المعادية لآسيا بحيث لم يجد الوقت ليفهم أن مشكلة آسيا ستكون مشكلته هو في القريب أيضًا. (اعترف أحد مسؤولي الصحة الإيطاليين بأن إيطاليا نظرت إلى تفشي المرض في الصين على أنه “فيلم خيال علمي لا علاقة لنا به”). تماماً مثلما فعلت كوريا الجنوبية، كان من الممكن أن تتحرك الولايات المتحدة وأوروبا في المرحلة الأولى من تفشي المرض لتنفيذ برنامج إجراء الفحوصات والحجر الصحي على نطاق واسع وتقليل الأضرار الناجمة عن فيروس كورونا. ومن خلال استبعاد رد كوريا الجنوبية والتعريض به باعتبار أنه مقصور على ثقافة بعينها، يرتكب الغرب مرة أخرى الخطأ نفسه، ويخفق في إدراك أن حل آسيا يمكن أن يكون حله هو أيضاً.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 4