عندما تصبح البشرية والكرة الارضية على شكل وشاكلة فلسطين

2020.04.17 - 01:54
Facebook Share
طباعة

 ما يعانيه اكثر من نصف البشرية، في غالبية قارات العالم ودوله، في الاسابيع القليلة الماضية، وعلى مدى اسابيع، (وربما اشهر) كثيرة مقبلة، من اغلاقات وحجر وحجز وتقييد حركة ومنع تجول؛ ومن شلل كامل للتعليم، بالصورة العادية المعروفة، من حضانات الاطفال حتى آخر درجات التحصيل الاكاديمي، واستبدالها (لمن يستطيع) بـ»التعليم عن بُعد»؛ ومن انهيار وتدمير للاقتصاد والانتاج الصناعي والزراعي؛ ومن اختلال كامل في عالم النقد والمصارف الوطنية والدولية؛ عانى ويعاني الفلسطينيون منه منذ اكثر من خمسة عقود بشكل عام، ومنذ بداية العقدين الأولين من القرن الحالي بشكل خاص.
اعتاد الفلسطينيون في مناطق السلطة الوطنية، مضطرين مجبرين وبدون خيارات بديلة، (آسف!! اعتذر، واقول: تنازلت قياداتهم عن كل البدائل الممكنة والمتاحة والمطلوبة؛ عن بدائل الاضراب والرفض والتمرد والعصيان والثورة، واستبدلتها، جميعا، بخيار «المفاوضات»، حتى وصلت حد اعتبار الحياة نفسها، وليس جودة الحياة فقط، او نوعيتها وكنهها وفحواها وفائدتها ومعناها الأعم، بعنوان: « الحياة مفاوضات»!!!)؛ على تدبّر امور حياتهم اليومية، في ظل قرارات الإغلاق والحجر والحجز وتقييد الحركة ومنع التجول، وتدمير التعليم والاقتصاد الوطني والانتاج، بفعل وقوعهم تحت نير الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي.
رغم ذلك، فإنه لا بد من تسجيل نقطة ايجابية لرئاسة السلطة، ولحكومة الدكتور محمد اشتية، للتنبه المبكّر لجدية تهديد الوباء، وفرض العديد من الاجراءات الوقائية، التي حمت الناس، حتى الآن، من انتشاره، وما كان يمكن ان يرافق ذلك الانتشار من مخاطر لا قِبَل للسلطة الفلسطينية باحتوائها وتحمل آثارها، جرّاء اداء فلسطيني ركيك، منذ انشاء السلطة حتى الآن، وكذلك من جرّاء كونها سلطة مكبّلة بقرارات جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، وبضعف واضح في قدراتها المالية والاقتصادية، وبافتقارها لبنى تحتية علمية وصحية واقتصادية ومالية.
تواجه البشرية هذه الايام فايروس كورونا الذي لا يُرى بالعين المجردة. ويواجه الفلسطينيون هذه الايام، ما يواجهه العالم، ولكنهم يواجهون ما هو اكثر من ذلك، يواجهون كون «عينهم المجردة» ذاتها، مغممة ومعصوبة بالاحتلال والاستعمار والعنصرية الصهيونية الإسرائيلية. فحتى عندما تنقشع عن عين البشرية، (بعد ايام او اسابيع او اشهر)، غمامة تفصل بين العين المجردة للبشر والمكبِّر المايكرسكوب، وتفتح الطريق للتغلب على الكورونا، ستبقى العين الفلسطينية المجردة معصوبة بهذا الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. ما العمل؟
ليس من اللائق والمستحب، في اوقات الضيق والمحنة، ان يعود كاتب الى التذكير بما قال وكتب قبل عقود وسنين كثيرة. لكن، ورغم معرفتي لهذه القاعدة، أجد نفسي مضطرا الى تسجيل حدث كنت شاهدا عليه وفاعلا فيه، ذلك ان فيه درساً وعبرة، علّ من يعنيه الأمر استيعابها.
بعد اشهر قليلة من خروج قيادة الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، واستقرارها المؤقت في تونس، جاء الصديق الراحل، غازي السعدي، صاحب ومدير «دار الجليل للنشر»، من عمان الى تونس، واستأذن الزعيم الفلسطيني الخالد، ابو عمار، في اصدار كتاب يجمع كل الرسائل المعلنة التي حرص ابو عمار على بثها منذ بدء تشديد الجيش الإسرائيلي للحصار على بيروت، وكانت جميع تلك الرسائل تنشر وتذاع تحت عنوان «من ابو عمار الى الجميع». بعد ان اطرق ابو عمار قليلا، رفع عينه وقال لغازي السعدي، نعم، انشر ذلك في كتاب خاص، ولكن بشرط ان يضع عماد مقدمة الكتاب. وهكذا كان. وصدر الكتاب تحت عنوان: «رسائل من قلب الحصار»، وعنوان فرعي: «من ابو عمار الى الجميع».

عندما عاد غازي السعدي الى تونس وقدم نسخة من الكتاب الى ابو عمار، تناولها وراح يقرأ المقدمة بصمت، ثم فاجأني، قبل أن ينهي قراءة المقدمة، بوقوفه والتقدم نحوي معلنا أنه سيمنحني قبلة تقدير وشكر. وعندما سأله غازي عما دفعه الى ذلك، عاد ابو عمار وبدأ بقراءة فقرة تقول: «لقد كتبت هذه الرسائل في ظروف خاصة تماما، في مرحلة صدق مطلق مع الذات والآخرين، في لحظات الحقيقة، في ايام تألق فيها القائد: أخاً وأباً وقائداً، بلغ منه الإهتمام منتهاه، في رغيف لامرأة وشربة ماء لطفل، وزيارة لجريح، ومعالجة لمقترحات من فيليب حبيب، وتهديدات شارون وطائرات وبوارج ودبابات وصواريخ بيغن، ومشاريع وقرارات مجلس الأمن، واحتياجات مقاتل، وكيس رمل لمتراس، وجرافة لخندق، من رسالة من بريجينيف الى رسالة من محور قتال، من برقية من ميتران الى برقية من مقاتل في احد الخنادق، من حديث تلفوني مع الملك فهد الى آخر مع الرئيس الشاذلي. لم يطغَ شيء على شيء، ولا أعاق اهتمامٌ بباب، اهتماماً بأي باب». ثم راح ابو عمار يكرّر أكثر من مرّة جملة «ولا أعاق اهتمامٌ بباب، اهتماماً بأي باب».
نَمُرّ، كفلسطينيين، هذه الايام، بمثل ما مررنا به ايام حصار جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي لأول عاصمة عربية. كنّا وحدنا محاصَرين، حيث كان الكثير من البشر في العالم منشغلاً، في حينه، بالمونديال وكرة القدم وشهر رمضان. وها نحن اليوم محا صَرون، وكل واحدة من دول العالم منشغلة بكورونها وصحّة مواطنيها، وبشهر رمضان على الأبواب. «ما اشبه اليوم بالبارحة»!!.
لكن، وفي هذه الظروف بالذات، وكل واحدة من دول العالم منشغلة بهمومها وقضاياها وصحة مواطنيها، يجد رأس الأفعى الصهيونية العنصرية الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، متّسعا من الوقت لإرغام منافسه (سابقا) بيني غانتس، على التخلي عن شرط حزبه بالتوصل الى إقرار فرض «السيادة» الإسرائيلية على اجزاء من اراضي «الدولة الفلسطينية» حسب قرارات الشرعية الدولية، بالتوافق مع «دول الجوار» والشرعية الدولية، وبفتح باب المفاوضات/الاملاءات مع القيادة الفلسطينية.
لا يشعر الإسرائيليون بالملل هذه الايام، رغم كل قرارات الاغلاق والحواجز، رغم منع التجول الشامل الذي لم يشهدوه من قبل، ورغم فرض «حجر» الآلاف منهم. وينحصر «الفضل» في ذلك في مناورات وألاعيب رئيس حكومتهم المؤقتة، بنيامين نتنياهو، الذي لا يكتفي بـ»طلّته» على شاشات تلفزيوناتهم يومياً، في ساعة الذروة، محذراً من مخاطر انتشار وباء الكورونا من جهة، ومطمئناً بالتصدي لها من جهة ثانية، منذراً بعواقب اقتصادية وغير اقتصادية وخيمة، في بداية «الوصلة»، ومبشّرا بقدرة اقتصاد إسرائيل على الصمود وعبور الأزمة بأمان في ختامها.
هذا ما يفعله الحاكمون في جميع دول العالم تقريبا منذ اسابيع عديدة. الا ان نتنياهو بزّ نظراءه جميعا، مستفيدا من فوضى سياسية/حزبية في إسرائيل، الغارقة منذ سنة ونصف تقريبا في مسلسل انتخابات، من ثلاث حلقات حتى الآن، لم يتسنّ فيها لأي من الاحزاب والكتل البرلمانية المتنافسة ان تحسم، او ان تقترب حتى، من تشكيل ائتلاف لتشكيل حكومة مستقرة، تحظى بثقة الأغلبية في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، المكون من 120 مقعدا. وهكذا بقيت الحكومة برئاسة نتنياهو حكومة تصريف اعمال منذ ما يقارب سنة ونصف السنة.
في هذا الوضع السياسي/الحزبي الداخلي غير المستقر، الذي تعيشه إسرائيل، جاء وباء الكورونا وكأنه نعمة سماوية لنتنياهو، وفّرت له سببا مقنعا للظهور يوميا على شاشات التلفزيون، ممسكاً بعصا المايسترو، ومعطياً التعليمات والتوجيهات، فتعزف الاوركسترا التي يقودها، اللحن الذي ترقص على أنغامه كل اجهزة جميع السلطات هناك: التنفيذية والبرلمانية والقضائية، ولتكون النتيجة الفورية لها، تشققات شاملة في الأحزاب والكتل البرلمانية المنافسة له ولحزبه، الليكود، وليخرج منها بحصيلة اولية دسمة، حيث جاءه بيني غانتس، رئيس حزب كحول لفان، والذي أخذ التكليف لتشكيل حكومة إسرائيلية بديلة لحكومة نتنياهو، مقدما له آيات الولاء والطاعة، ليكون هو رئيسا للحكومة المقبلة لمدة سنة ونصف، يتمكن خلالها من العثور على اكثر من مخرج يحميه من المثول امام القضاء بتهم عديدة تتعلق بالرشوة والفساد وغيرهما.
لقد تنبهت القيادة الفلسطينية الشرعية، ممثلة بالرئيس ابو مازن، وبالدكتور محمد اشتية، رئيس الحكومة الفلسطينية، الى جدية تهديد وباء الكورونا، وهذا امر جيد وممتاز يحسب لهذه القيادة، لكنه ليس كافيا على الاطلاق.
جدير بهذه القيادة ان تعرف، انه لا يجوز ان يعيق اهتمامٌ بباب، اهتماماً بأي باب.

كاتب فلسطيني

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 5