كتب أنور الجمعاوي: عن دستور الرئيس في تونس

2022.07.22 - 02:33
Facebook Share
طباعة

بعد إعلان رئيس "اللجنة الاستشارية من أجل بناء جمهورية جديدة"، الصادق بلعيد، استقالته منها، وتبرّؤه من مسوّدة الدستور التي صدرت بالجريدة الرسمية التونسية (30/06/2022)، معتبرا "نصّ مشروع الدستور الجديد المنشور والمعروض للاستفتاء، لا يمتّ بصلةٍ إلى نص الدستور الذي أعدّته اللجنة، وتم تقديمه لرئيس الجمهورية" في 20 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، مضيفا أنّه "ينطوي على مخاطر ومطبّات جسيمة .. من شأنها التمهيد لنظام ديكتاتوري مشين"... وبعد تعبير أستاذ القانون الدستوري وعضو اللجنة المذكورة، أمين محفوظ، عن صدمته من محتوى النسخة المعروضة، قائلا إنّها "خطيرة ولا تؤسّس لنظام ديمقراطي"، بات من الواضح، في نظر مراقبين للشأن التونسي، أنّ الرئيس قيس سعيّد هو من وضع الدستور الجديد، وهو من قدّ فصوله، ورتّب أبوابه، وصاغ محامله شكلا ومضمونا. والناظر في متن مشروع الدستور يلحظ بصمات ظاهرة للرجل، لعلّ أهمّها التوطئة الإنشائية، المشحونة بنفسٍ ثورجي، شعبوي، والجهاز المعجمي المتواتر غالبا في الخطاب التعبوي للرئيس من قبيل: الشعب يريد، الصعود الشاهق في التاريخ، الانفجار الثوري، سحب الوكالة، الوظائف لا السلطات، تصحيح مسار الثورة .. كما أنّ إصلاح سعيّد 46 خطأ لغويا ومضمونيا في مسودّة الدستور الأولى، وإصداره نسخة ثانية معدّلة (08/07/2022)، من دون مراجعة الهيئة الاستشارية في هذا الخصوص، دليل على أنّه كتب مشروع الدستور، وتحمّل وزر أخطائه، واستفتى النّاس فيه.

والواقع أنّ الدستور الجديد حمل طيّه مضامين مهمّة، من قبيل منع السياحة الحزبية، وحظر الإضراب في قطاعات حيوية (الفصل41)، وإحداث مجلس أعلى للتربية والتعليم (الفصل 135)، وإلزام الدولة برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، والأطفال والمسنّين الذين لا سند لهم (الفصلان 52ـ53)، وتجريم التمييز على أساس الانتماء (الفصل 19)، ورفع الحصانة عن النائب في حال تعطيله السير العادي لأعمال البرلمان (الفصل 66)، وتأمين ظروف المحاكمة العادلة (الفصل 124). وفي المقابل، أسّس مشروع الدستور، في نسختيه، الأصلية والمعدّلة لنظام شمولي، أحادي، يُنذر بإقامة سلطوية جديدة. ولذلك تجلّياتٌ أهمّها: التضييق على الحريات، وعدم التوازن بين السلطات، وتهميش الهيئات الدستورية الرقابية.

قيس سعيّد هو من وضع الدستور الجديد، وهو من قدّ فصوله، ورتّب أبوابه، وصاغ محامله شكلا ومضمونا

خصّص قيس سعيّد بابا كاملا من مشروعه الدستوري للحقوق والحريات (من الفصل 22 إلى الفصل 55)، واستحضر معظم مواد دستور 2014 في هذا الخصوص. ورد في الفصل 22: "تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحريات الفردية والعامة". وأقرّت الفصول من22 إلى 30 المساواة أمام القانون، والحق في الحياة، ومنع التعذيب، وضمان الحرية الفردية وحرية المعتقد وسرية الاتصالات والتنقل. كما أكّدت الفصول من37 إلى 40 ضمان "حرية الرأي والفكر، والتعبير والنشر، وعدم الرقابة عليها"، والحق في "الإعلام والنفاذ للمعلومة"، وحق"الانتخاب والاقتراع والترشّح، مع ضمان تمثيل المرأة في المجالس المنتخبة"، و"حرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات". ومع أهمّية التنصيص الدستوري على هذه الحقوق والحريات، فإنّ الفصل 55 من دستور الرئيس جاء لتقييدها وفرض جملة من الضوابط عليها، فهو ينصّ على "عدم وجود قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلا بمقتضى قانون أو لضرورة يقتضيها الدفاع الوطني أو الأمن العام أو الصحة العمومية أو حمايةُ حقوق الغير".

ومعلومٌ أنّ من شأن تحديد الحريات بقوانين ترتيبية لاحقة، وبعباراتٍ فضفاضة، وبضروراتٍ ضبابية، من قبيل مقتضيات "الدفاع الوطني أو الأمن العام"، أن يقلّص من هامش الحريات، خصوصا ما تعلّق بحقوق التعبير، والتنظّم، والتجمّع والتظاهر، فكثيرا ما استغلّ المشرّع بعد قيام ما يعرف بدولة الاستقلال صلاحية سنّ قيود قانونية بعدية للتضييق على الحريات الدستورية ومصادرتها، وتبرير السياسات القامعة. يضاف إلى ذلك أنّ دستور قيس سعيّد لا يوفّر ضماناتٍ واضحة لحماية الحقوق والحريات، وذلك في ظلّ عدم وجود قضاء نزيه ومستقل، وغياب التنصيص على حتمية وجود هيئات حقوقية رقابية تسهر على معاينة مدى احترام حقوق الإنسان في البلاد. وهو ما يجعل النظام الحاكم، والمشرّع السائد، والسلطة التنفيذية القائمة يشرفون على تحديد معايير الحقوق والحريات، وتقييدها، وتوجيهها على هواهم.

كفّ القضاء في مشروع الدستور الجديد عن كونه سلطةً مستقلّة بذاتها

في مستوى العلاقة بين السلطات، منحت مسوّدة دستور قيس سعيّد شخص رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، مقارنة بصلاحيات رئيسي الحكومة والبرلمان، وهمّشت مؤسّسة القضاء. فرئيس الدولة، بموجب الدستور الجديد، هو محور منظومة الحكم، وهو صاحب القول الفصل في إدارة البلاد، والمهيمن على كلّ أجهزة الدولة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. بل إنّه فوق المساءلة، والجميع مسؤولٌ أمامه. فهو مَن يضبط السياسة العامّة للدولة (الفصل 100)، ويتولّى إسناد الوظائف العليا المدنية والعسكرية فيها (الفصل 106)، وهو مَن يعيّن رئيس الحكومة وبقية أعضائها (باقتراح من الأخير)، وفي مقدوره إنهاء مهامّهم (الفصلان 101ـ102)، ومن ثمّة، يتم تعيين الحكومة في غير اعتبار لنتائج الانتخابات التشريعية، وهو من اختصاص حاكم قرطاج، لا من مشمولات الحزب الأغلبي، كما كان الحال في دستور 2014. والحكومة ليست بحاجةٍ للحصول على ثقة البرلمان لتُباشر أعمالها فهي ليست مسؤولة أمامه. بل هي "مسؤولة عن تصرّفها أمام الرئيس" (الفصل 112). ومن ثمّة، نحن إزاء حكومةٍ لا تملك من أمرها شيئا، وهي مجرّد ظلّ للرئيس، وأداة من أدوات تنفيذ مشروعه السياسي. واللافت أنّ رئيس الجمهورية يمكن أن يمدّد عهدته الرئاسية بموجب قانون ترتيبي، لاحق، إلى ما لا نهاية، بتعلّة وجود خطر داهم (الفصل 90). كما في مقدوره إعلان تدابير استثنائية (مبهمة، وغير مفصّلة)، وغير محدّدة بسقفٍ زمني متى شاء، وله رفعها متى شاء من دون مراجعة المحكمة الدستورية (الفصل 96). وذلك على خلاف الفصل 80 من دستور2014. يضاف إلى ذلك أنّ "رئيس الجمهورية يتمتع بالحصانة طيلة توليه الرئاسة، وتعلق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط (...)، ولا يُسأل عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه" (الفصل 110). وبناء عليه، يصبح الرئيس كائنا متعاليا، لا رادّ لأمره، ولا رقيب ولا حسيب عليه، فهو يسأل الناس عن أعمالهم، ولا يُسأل عمّا يفعل كأنّه صاحب العصمة أو شبه الإله.

في المقابل، بدت صلاحيات البرلمان في مشروع دستور 2022 محدودة، فقد جرى إحداث مجلس وطني للجهات والأقاليم، ليُنازعه اختصاصاته الرقابية والتمثيلية. ولا يمكن إقالة الحكومة أو حجب الثقة عنها عبر التصويت، إلا بتأييد ثلثي النواب في المجلسين (الفصل 115)، وهو شرطٌ يصعب تحقيقه، ما يجعل الحكومة عمليّا في حلّ من الرقابة البرلمانية. ويجوز "لرئيس الجمهورية أن يحل المجلسين أو أحدهما، ويدعو إلى تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها" (الفصل 115)، وله الحقّ في اقتراح تشاريع، وإصدار مراسيم، وردّ قوانين صدّق عليها المجلس النيابي. وبذلك، ينافس الرئيس البرلمان على اختصاصاته التشريعية ويتحكّم في مآلها. كما أنّ حصانة النوّاب مقيّدة" (الفصل 66)، ويمكن سحب الوكالة منهم" (الفصل61). وكلّ ذلك يجعل البرلمان ضعيفا، واقعا تحت سلطة رئيس الدولة، مجرّدا من معظم الصلاحيات التي نصّ عليها دستور الثورة (2014).

إنّ مشروع دستور 2022 قطع مع عشرية الانتقال الديمقراطي (2011 -2021)، وحسم معركة الصراع على الصلاحيات لصالح رئيس الجمهورية

على صعيد آخر، كفّ القضاء في مشروع الدستور الجديد عن كونه سلطةً مستقلّة بذاتها، وأصبح بدوره مجرّد وظيفةٍ خاضعة لهيمنة السلطة التنفيذية، باعتبار أنّ "تسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهورية" (الفصل 120). كما لم تتمّ دسترة المجلس الأعلى للقضاء، وغاب التنصيص على استقلاله المالي والإداري. ولم يتمّ تقديم ضمانات لتحجير التدخل في سير القضاء، ومنع إحداث محاكم أو تدابير استثنائية تُخل بشروط المحاكمة العادلة (الفصلان 109 - 110 من دستور 2014). وسكتت مسوّدة الدستور عن صلاحيات القضاء العسكري وحدوده. وجرى تأثيث المحكمة الدستورية بتسعة قضاة قدامى، على أبواب التقاعد، ما جعل تركيبتها تفتقر للتنوّع المهني. وجاء في النسخة المعدّلة من مشروع دستور 2022 أن "تسميتهم تتمّ بأمر"، ما يعني أنّهم تحت جبّة السلطة التنفيذية، وهو ما يقلّل من هامش استقلاليتهم. وبناء عليه، الدستور المقترح يشرّع لمرْكزة السلطة بيد الحاكم/ الفرد، ويرتقي به إلى مقام المعصوم، وهو ما يتعارض مع مبدأ التوازن بين السلطات الذي ينْبني عليه النظام الديمقراطي.

أمّا الهيئات المدنية الدستورية المستقلّة التي خصّها دستور الثورة (2014) بالباب السادس منه، وأبرزها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وهيئات الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة، فحذفها قيس سعيّد من مشروع دستوره الجديد، ولم يستبْقِ منها سوى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي أفردها بفصل يتيم (الفصل 134)، ولم يفصّل القول في آلية تكليف أعضائها، وهو ما يعني احتمال تعيينهم من جانب رئيس الجمهورية بموجب قانون ترتيبي لاحق على نحو يجعلها هيئة غير محايدة. والثابت أنّ إلغاء الهيئات الدستورية التي تعدّ مرجعا تعديليا مستقلا، وضامنا أساسيا لاحترام حقوق المواطنين، يفسح المجال لهيمنة السلطة التنفيذية على الشأن العام، ويعدّ تقويضا لمشروع الحوكمة والدمقرطة الشاملة بتونس.
ع
ختاما، يمكن القول إنّ مشروع دستور 2022 قطع مع عشرية الانتقال الديمقراطي (2011 -2021)، وحسم معركة الصراع على الصلاحيات لصالح رئيس الجمهورية، وأسّس لنظام رئاسوي، أحادي بلون ملَكي، مطلق، تمّ معه تهميش المنظّمات المدنية الرقابية، والهياكل التمثيلية الوسيطة، وتركيز الحكم بيد الرئيس. وهو ما يؤشّر إلى انتقال تونس من نادي الدول الديمقراطية إلى نادي الأنظمة الشمولية في العالم العربي. وفي ذلك استدعاء لملامح الزمن السياسي قبل الثورة لا محالة.

المقال لا يعبر عن رأي الوكالة وانما عن رأي كاتبه فقط

المصدر: العربي الجديد 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 6