كتب سالم لبيض: ما الجديد في جمهورية قيس سعيّد؟

2022.06.04 - 07:12
Facebook Share
طباعة

 يبدو أن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، حسم الأمر نهائيا، واختار إطلاق اسم "الجمهورية الجديدة" على الكيان السياسي الذي سيكون عنوان الدولة التونسية زمن ولايته التي انطلقت يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولا يعرف أحدٌ متى ستنتهي، وذلك بسبب نسفه كل معايير التداول السلمي على السلطة، وإيجاد حالةٍ من اللامعيارية السياسية. وأخذت هذه التسمية مكان الجمهورية الثالثة التي كان الرئيس التونسي يؤثث بها خطاباته السياسية وانفعالاته التي لا تخلو منها لقاءاته ومحاوراته مع حكومته ووزرائه وضيوفه المحليين والأجانب. من الناحية الموضوعية، لم تعرف تونس، بعد واقعة 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، التي أدخلت البلاد في حالة من الاستثناء الدائم، تطبيقا للفصل 80 من الدستور، بهرمونيطيقا فردية، ثم تعليق العمل بالدستور نهائيا، واستبداله بالمرسوم الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، تغيّرا هيكليا وتاريخيا يوازي توقيع اتفاقيات الاستقلال الداخلي سنة 1955 والاستقلال التام في 1956 وإنهاء الملكيّة سنة 1957 وتأسيس الدولة الوطنية الجديدة على أنقاض الاستعمار الفرنسي واتفاقيات الحماية القديمة التي وقّعها الباي في باردو والمرسى سنتي 1881 و1883، ما أدّى إلى نشأة الجمهورية الأولى بقيادة الحبيب بورقيبة، واختيار النظام الرئاسي على قاعدة دستور 1 جوان (يونيو/ حزيران) 1959، المنسجم مع الطبيعة الزعامية لتلك المرحلة، والهادف إلى إرساء دولة مركزية قوية، لإدارة مجتمع ميزته الانقسام والطابع القبلي والتقليدي الغالبين. ولكن أحوال الاجتماع السياسي التونسي في أثناء حكم الدستوريين (1956-2011) عرفت الرئاسة مدى الحياة والاستبداد واحتكار السلطة من الحزب الواحد والزعيم الأوحد والحكم الأمني، المسمّى "جمهورية الخوف" حسب تعبير المؤرخ الهادي التيمومي في كتابه "الاستبداد الناعم في تونس"، الذي استحال نظاما "رئاسويا دكتاتوريا مافيوزيا"، وفق تعبير الصادق بلعيد (حوار في صحيفة المصور نشرته في 14 فبراير/ شباط 2011)، لما صاحبه من فساد وحكم العائلة، فوضعت له الثورة التونسية حدّا سنة 2011، بعدما دام أكثر من نصف قرن، قبل أن يقطع معه عمليا الدستور التونسي لسنة 2014، الذي أدخل البلاد في مرحلة الجمهورية الثانية، وأقرّ نظاما برلمانيا معدّلا، بدلا من النظام الرئاسي الذي ارتبط في المخيال الجمعي لأجيالٍ متعاقبةٍ من التونسيين بالتسلط وحكم الفرد والدكتاتورية وفساد العائلة القائم على زواج البزنس والسياسة.


استخدم الرئيس سعيّد مصطلح "الجمهورية الجديدة" أول مرّة في أثناء لقاء جمعه بالخبيرين القانونيين، الصادق بلعيد ومحمد صالح بن عيسى، يوم 1 مايو/ أيار 2022، ثم أعاد استخدام التسمية في أثناء اجتماع مجلس الوزراء بقصر قرطاج يوم 19 من الشهر نفسه، وهو التاريخ نفسه الذي صدر فيه المرسوم عدد 30 لسنة 2022 المتعلق بإحداث "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، ليأخذ المصطلح طابعا رسميا وقانونيا ملزما للدولة التونسية بعد نشر ذلك المرسوم في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) للبلاد التونسية.

وحسب الفصل الرابع من المرسوم عدد 30، تتألف الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة، التي أسندت رئاستها للعميد السابق بكلية الحقوق بتونس والقانوني المخضرم الصادق بلعيد، من اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية بعضوية ممثلين عن الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والاتحاد الوطني للمرأة التونسية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، يشرف عليها عميد الهيئة الوطنية للمحامين إبراهيم بودربالة. واللجنة الاستشارية القانونية وتضم عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية بالجمهورية التونسية، ويتولى رئاستها أكبرهم سناً (عرفت مقاطعة من المعنيين بالأمر)، لجنة الحوار الوطني، وتتركّب من أعضاء اللجنتين الاستشاريتين.

اشترط المرسوم الرئاسي، في فقرته الثانية من الفصل الثاني، صياغة دستور الجمهورية الجديدة على أرضية احترام الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة عند إعداد المشروع المذكور المبادئ والأهداف المنصوص عليها بالفصل 22 من الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، المتعلق بالتدابير الاستثنائية، ونتائج الاستشارة الوطنية، رغم ما تلقاه تلك النصوص من معارضة من أغلب مكونات المجتمعين السياسي والمدني، في تونس. فقد كان الأمر الرئاسي 117 وتطبيقاته نموذجا لما سيتضمنه دستور الجمهورية الجديدة من احتكار للسلطة واختزال الشعب في الأنا الرئيس الذي لا تقبل أوامره ومراسيمه وقوانينه الطعن والتعقيب. وبيّنت الاستشارة الوطنية، وهي، في حقيقتها، استفتاء إلكتروني قبلي، على اختيارات قيس سعيّد الكبرى ومشروعه الذي لم يعرضه على الناخبين في أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية سنة 2019، محدودية شعبية الرئيس بعد بضعة أشهر من واقعة 25 جويلية 2021، بمشاركة 5% فقط من التونسيين، وهي أدنى نسبة من المشاركة السياسية في تاريخ المجتمع السياسي التونسي منذ 2011.

فكرة الجمهورية الجديدة التي يبشّر بها قيس سعيّد مستنسخة من التجربة المصرية، فالتسمية تتردّد منذ سنة 2015 في المعجمية السياسية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهي فاقدة للتجديد بالمعنى الدستوري العميق، المعبّر عن تحول في نظرية الحكم وطبيعة النظام السياسي، وتكتفي النخب المصرية الموالية للنظام بإعطائها شحنة تنموية واقتصادية، الأمر الذي نقده الصحافي المصري الناصري عبد الله السناوي، في مقال بعنوان "الجمهورية الجديدة التي نحتاجها"، وجاء فيه "لن تكون هناك جمهورية جديدة إلا إذا تغيرت فلسفة الحكم وأساليبه وفق قواعد دستورية نافذة تتمتع بقوة الحضور في الحياة العامة. لا تنسب الجمهوريات إلى أشخاص، أيا كان قدر دورهم في تاريخ بلادهم".

وعلى خطى الجمهورية الجديدة في مصر، التي تعتمد نظاما رئاسيا ومجلسا تشريعيا بغرفتين، الخالية من أي تجديد دستوري حقيقي، سيكون دستور سعيّد وجمهوريته مجرّد رسكلة وإعادة إنتاج يحدّدها المزاج السياسي الآني، فالذاكرة السياسية والقانونية التونسية لا تزال تحتفظ بموقف كل من سعيّد وبلعيد سنة 2011 المستجيب للمزاج العام آنذاك، وانتصارهما لفكرة كتابة دستور جديد بديلا عن دستور 1959 عن طريق جمعية تأسيسية (مقال سعيدة بوهلال في صحيفة الصباح يوم 26 فبراير/ شباط 2011 بعنوان "هكذا يقع تجاوز الانفلات الدستوري والمرور إلى جمعية وطنية تأسيسية: جامعيون يرسمون خارطة الطريق")، إلا إذا اعتبر تجديدا دستوريا ميولات سعيّد الرئاسية وفلسفته القاعدية القائمة على الانتخابات على الأفراد وضمان تمثيلية المعتمديات (الفكرة المجالسية الماركسية القديمة) وتغييب الأحزاب (ألغى المرسوم عدد 34 لسنة 2022 المنقح لقانون الانتخابات دور الأحزاب في حملات الاستفتاء) وسحب الوكالة من النواب، وعلى الشركات الأهلية (شبيهة بالتعاضديات في مشروع الوزير أحمد بن صالح في الستينيات من القرن العشرين)، والعودة إلى النظام الرئاسي التقليدي الذي يعين فيه الرئيس الحكومة وهي مسؤولة أمامه (تجربة الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي)، واعتبار البرلمان مؤسسة تشريعية صرفة، تزكي مشاريع القوانين القادمة من الرئيس وحكومته من دون منحها الثقة أو سحبها منها.

لا أمل في دستور جمهورية جديدة، مهندسه الرئيسي خبير قانوني لم يجدّد أفكاره منذ أكثر من عقدين، فآخر كتاب للصادق بلعيد "القرآن والتشريع" منشور سنة 2000، لم تتداول في مضامينه ومحتوياته المجتمعية التي تهمّ كل شرائح الشعب إلا مجموعة من اللجان الصورية، التي يجري انتقاء أعضائها بحسب القرب من الرئيس سعيّد والولاء له وتأييد مواقفه، وما يتماهى مع ذلك الولاء من أهل الأيديولوجية الليبرا- يسارية، ظهرت ملامحها بيّنة وجلية في قائمة أعضاء اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية التي تساوت فيها منظمات وطنية كبرى، ذات خلفية اقتصادية واجتماعية ومدنية، إن هي قبلت المشاركة، وأحزاب سياسية، مبرّر وجودها الاشتغال بالشأن السياسي، حظي بعضها، على قلّتها، بتمثيلية برلمانية محترمة، مع أشخاصٍ ومجموعات لا يمثلون إلا أنفسهم. وسيكون التجديد الرئيسي في دستور الجمهورية الجديدة هو التخلص من الفصل الأول من دستور 2014، وهو استنساخ للمادة الأولى من دستور سنة 1959، الذي حسم معركة الهوية، وجاء فيه "تونس دولة حرّة مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، بعدما لمّح الرئيس سعيّد بذلك، في محاضرة له على هامش تسليم جوائز الفائزين في الدورة 53 للمسابقة الوطنية لحفظ القرآن الكريم في نهاية شهر رمضان المنقضي، حين قال "نحن نصوم ونصلي بأمر من الله، وليس بناء على الفصل الأول من الدستور". والنكوص نهائيا، حسب تصريح تلفزي لبلعيد، عن إدراج تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني في دستور الرجل الذي أطلق يوما مقولة "التطبيع خيانة عظمى"، فأوصلته إلى كرسي الرئاسة.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 7 + 8