كتبَ مهدي مصطفى: عقيدة الحرب وعقيدة الحضارة

2022.05.27 - 04:05
Facebook Share
طباعة

 هذه الأيام شبيهة بالسنوات الأربع الأخيرة من القرن الحادى عشر.. سنوات غليان الفرنجة، حين تلبستهم أرواح الحروب المقدسة، فشنوا حملات عسكرية دامية، ألبسوها أثوابا دينية مقدسة.

كانت حملات اقتصادية فى الواقع، رفعت شعارات أبعد ما تكون عن الشعارات الظاهرة، والحقيقة أن الحرب نشبت على أساس عرقى وعنصري، فقائمة الأعداء فى ذلك العهد البعيد شملت: البيزنطيين، والهراطقة الأوروبيين، واليونانيين، والعرب، والمغول، والروس، والسلاف الوثنيين.

السلاف الوثنيون!

كانوا فى قائمة الأعداء، فهل خرجوا منها إلى الآن؟ الشاهد أنهم ما زالوا فى قلب القائمة، كما نحن وغيرنا من الأعراق والثقافات.

 استطاع أصحاب عقيدة الحروب المستمرة أن يضعوا جزءا من هؤلاء السلاف فى مواجهة دامية مع بعضهم بعضا.

والسلاف أكبر مجموعة عرقية ولغوية أوروبية، ينتشرون فى دول مختلفة على تخوم أوروبا شرقا ووسطا وجنوبا، وعلى حواف ووسط وشمال آسيا، وفى القارة الغربية يصنفون كشرقيين وغربيين وجنوبيين.

جاءت المسألة الروسية – الأوكرانية، لتستعيد تفكير الجالسين فى الظلام، وهى مسألة سلافية شرقية بامتياز، والسلاف الشرقيون يعيشون فى روسيا وبيلا روسيا وأوكرانيا، ويتقاتلون الآن بدافع واضح من أصحاب عقيدة الحرب الأساسيين، كأنهم يستأنفون مسارا طويلا من حملات لا تتوقف، تبدأ من أوروبا، وينتهى بها المطاف فى الشرق العربي، وريث الحضارات والأديان السماوية!

الروس والأوكرانيون سلاف، لغة وعرقا، يتقاتلون حول تأكيد فكرة غربية خالصة، كأن الأيام لا تدور أبدا فى أذهان مخترعى الحروب، ولا شك أن المسألة الأوكرانية تعد بمثابة الجمر تحت الرماد، فإذا كان مسرحها هو الأراضى الأوكرانية، فإن فضاءها يمتد إلى الكرة الأرضية بالكامل، وكما اجتاحت الحملات الأولى بيزنطة واليونان، وصولا إلى الروس والمغول، واستقرت فى الأراضى العربية، فلا مانع أن يستعاد التاريخ بنفس المسار.

جاءت الأسباب الجوهرية للحرب وبدوافع اقتصادية، اتشحت بمسوح الدين، ثم كانت بدوافع عرقية وإثنية ولغوية، فهل تغير المعنى الجديد عن المعنى القديم هذه الأيام؟

 بنظرة فاحصة، سنكتشف أن عقيدة الحرب القديمة مستمرة، وأن قائمة الأعداء واحدة، وأنها لا تتغير فى الجوهر، لكنها تتغير فى ألوان الرايات، وعناوين الشعارات.

المسألة الأوكرانية جاءت بالماضى إلى الحاضر، فالصراع اقتصادى محض، بين قوة شرقية بازغة تتنامى، تبدو وكأنها ستلتهم طرق التجارة العالمية، وتحتكر السلع والخدمات، وتتقاسم النفوذ، وبين قوة غربية، تبدو وكأنها فى طور الأفول، بعد سنوات من احتلال قمة العالم.

 هذا هو الواقع، ومع وجود كارثة اقتصادية عالمية تتجاوز أزمة الكساد العالمى فى الثلاثينيات، وبالطبع الأزمات العظمى لا تنتهى إلا باصطناع حروب عظمى فادحة، ولولا وجود توازن الرعب النووى لوقعنا فى حرب سريعة خاطفة، ينتهى معها كوكب الأرض ومن عليه فى لمح البصر.

ألم يعد كافيا ألف عام من الحملات، ألم يحن الوقت لاعتزال أصحاب عقيدة الحروب المستمرة، ألم يعد كافيا لأصحاب نزعة التفوق العرقي، لقد ظنوا أن نجاحهم النسبى خلال قرن أو اثنين، سيجعلهم متحكمين فى كل أعراق ولغات وثقافات البشر، لكنهم فشلوا فى طمس الهويات، ولم يحققوا نظرية انتخاب هوية واحدة جامعة تناسب أفكارهم أو تصوراتهم الخيالية، والشاهد أنهم لو استمروا ألف عام أخرى فلن ينجحوا، ولن ينجح مبشروهم المعتمدون فى اصطباغ العالم بصبغة واحدة.

إن الاختلاف الثقافى والحضارى مصدر ثراء، وليس مصدر صدام وحروب مقدسة، قد ينجح التوحيد القياسى فى السلع والخدمات، لكنه لا ينجح مع البشر والأمم والحضارات.

 أخذنا نحن العرب نصيبنا الدموى من الألفية العرقية، كما أخذ نصيبها بقية الأعراق واللغات والإثنيات، فالتقارب الدينى بين السلاف والغرب الأوروبى فى العصر الراهن لم يمنع أصحاب عقيدة الحرب من الاصطدام.

 إن المسألة الأوكرانية فتحت كتاب الماضي، ورغم الأسى على الضحايا، فسوف تكون بداية حقيقية لتشكيل نظام دولى مختلف.

 

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 7