كتب حسان الأسود: بين اليمين وأقصاه.. فرنسا الحائرة

2022.04.29 - 09:25
Facebook Share
طباعة

 فوزٌ بطعم الخسارة، أو هزيمة بنكهة الربح الحادّة، هكذا يمكن قراءة نتائج فوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التاسعة في الجمهورية الخامسة، وهذه هي صورة خسارة مارين لوبان على الضفّة المقابلة. قال الناخب الفرنسي كلمته مجبراً على اختيار رئيس أقلّ سوءًا من رئيس آخر، فلم يكن الخيارُ محضَ حريّة، بل كان إلجاءً واضطراراً للموازنة بين السيئ والأكثر سوءًا بتعبيراتٍ حقيقيةٍ صارخةٍ لعموم الطبقات المتوسطة والفقيرة في فرنسا، ولعموم الفرنسيين من أبناء الجاليات العربية والمسلمة، أو ذات الأصول غير الفرنسية الصرفة، كالأفارقة وسكان المستعمرات السابقة والمهاجرين الآسيويين الآخرين.


هذا الاختيار الذي أجّل الاحتراب الأهلي الداخلي خمس سنوات على الأكثر، حسب تعبير بعض المتشائمين، هو ذاته الذي يمكن أن يُطيلَ عمر الاتحاد الأوروبي المترنح بين ضربات الرئيس الروسي بوتين شرقاً وابتزاز الولايات المتحدة غرباً. شعر الفرنسيون بمسؤوليتهم عن إبقاء المشهد في لقطاته الأخيرة على مقربةٍ من النطع، فلا السيّاف مستحبٌّ قدومه الآن ولا المحكوم بالقصاص جاهزٌ لتقبّل نصل السيف بعد. ترك الفرنسيون حجر الرحى معلقاً في عنق ماكرون القادم على أجنحة رأس المال العابر للقارّات، الحالم باتّباع النموذج الأميركي النيوليبرالي اقتصادياً، الساعي إلى تحقيقه في صراعٍ مفتوحٍ مع أكثر من نصف عدد مواطنيه الذين أجبرهم وجه لوبان الأصفر على اختياره، كرهاً لها لا حباً به.


ما بين صرخات أصحاب السترات الصفراء التي طفقت تجوب ساحات فرنسا بمدنها الكبيرة، لتضعنا أمام مشهدٍ من الغضب لم نعتد عليه إلا في وجوه مواطني دول العالم الثالث، والتي لم ينقذه منها إلا جائحة كورونا وتدابيرها القمعية الزاجرة، وضغوط أصحاب رؤوس الأموال الراغبين بتعزيز هيمنتهم وفتح آفاق الإعفاءات الضريبية أمامهم، أمضى ماكرون سنواته الخمس الأولى في قصر الإليزيه داخلياً من صراع إلى صراع. وما بين فشلٍ ذريعٍ في التعامل مع الحلفاء الأقرب غرباً، والذي توّج بحلفٍ أميركي بريطاني أسترالي مضاد، وفشلٍ في الإبقاء على السيطرة الفاقعة في أفريقيا مع دخول المنافسين الروس من جهة والصينيين من جهة ثانية، سطّر ماكرون خارجياً قصّة سياسته الباهتة والمُحبَطة. لم يعد لفرنسا هذا الألق الأخّاذ في عيون العالم، وباتت مدينة الأنوار ليلتها على وقع كوابيس عتمة ليلٍ داجٍ قادمٍ لا محالة إن بقي الحال على ما هو عليه سابقاً.


كما أنّ نسبة الأصوات التي فاز بها ماكرون (55,85%) ليست حقيقية تماماً لما سبق بيانه من اعتباراتٍ دفعت الناخبين إلى التصويت له، كانت النسبة التي خسرت بها لوبان، والتي تخطّت عتبة الـ40% من أصوات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم غير حقيقية أيضاً. وعلى الرغم من هذا وذاك، يبقى المؤشر خطيراً عن رقص فرنسا على حافّة الجرف. لقد غابت أحزاب فرنسا التقليدية عن المشهد بشكل مروّع، فهذا الزمن على ما يبدو ليس زمن الكاريزما المستمدّة من عظماء فرنسا المركونين الآن على رفوف التاريخ، غاب ديغول ولم يبق من إرثه سوى ظلالٍ خافتة لا يكاد يلمحها الفرنسيون ذاتهم. إنّه زمن "السوشيال ميديا" العاصفة بأفكار الأجيال الشابّة التي لم تعد تذكر مآثر الأجداد، بعد أن عفى عليها الزمن وغطّاها غبار التقادم الكثيف. هنا يقبع شبحٌ من نوعٍ آخر أنتجه الخوف من الملونين عرقياً ودينياً وثقافياً القادمين من خارج أرض فرنسا الحقيقية. هذا التناقضُ الصارخُ بين شعورٍ داخلي فرنسي متكبّرٍ يرى في المستعمرات وجزر الهيمنة المتبقية خارج حدود فرنسا شيئاً طبيعياً ومستحقّاً، وشعور الكراهية والبغض لأبناء هذه المستعمرات وبناتها القادمين بحثاً عن أملٍ في المساواة مع مستعمريهم، هو الذي يجعل من فرنسا ما هي عليه الآن من حيرة وتردّد وانعدام اللون والوزن والطعم حتى!


حملت عيونُ الأوروبيين الشاخصة إلى شاغلِ كرسي الإليزيه المنتظر القلق نفسه الذي اضطرب به الشارع الفرنسي، وكان للألمان أكبر نصيبٍ من هذا التوتر. لقد جاءت النتائج، على مرارتها، مثل جرعة الأوكسجين لمريضٍ لم يعرف بعدُ الأطبّاء سبب غيبوبته، إنها مسكّنٌ لهواجس الطبّ لا أكثر كي يعمل الطبيب بعقل هادئ ويدين ثابتتين، ريثما تأتي نتائج التحاليل النهائية من المختبر. مصير التحالف بين قطبي الاتحاد الرئيسيين كان معلقاً إلى جانب عبوة الأوكسجين ذاتها، ونزوله عن الصليب الآن ليس ضمانةً بعدم الرجوع إليه قصُرَ الزمن أم طال، فالحمل بات ثقيلاً على العملاقين الأوروبيين، وليس في اليدِ الأميركية الممدودة خيرٌ أكثرَ من الشر القابع في فوهات المدافع الروسية. هناك على أطراف الشرق الأوروبي هوّة كبيرة تحفرها جنازير دبابات بوتين في قلب أوكرانيا لتردم فيها فائض المال الأوروبي.


ماذا ينتظر الفرنسيون من رئيسهم، وماذا ينتظر الأوروبيون منه أيضاً؟ إنّه سؤالٌ معروفة إجابته للمراقبين، لكنّ تحقيقها ليس مرهوناً بالتحالفات الحزبية التي فرضت قيودها على الرئيس الجديد القديم، ولا بالمتطلبات المستحقّة لأصحاب رؤوس الأموال الذين وقفوا خلفه بقوّة، ولا بالتنازع الروسي الأميركي أيضاً، بل بهذه جميعها، وفوقها بالغضب الكامن في صدور من ظنّوا أنفسهم يوماً قد تجاوزوا مرحلة الاقتتال على أرض قارّتهم الجميلة، ليجلسوا في صفوف المتفرّجين على اقتتال شعوب العالم الأخرى البائسة. هذا الرعب وهذا الغضب وهذه الاستهانة بنمط الحياة الاستهلاكية التي اعتاد عليها سكان القارّة البيض، هي بذاتها ما يخيف الجميع، وأوّلهم فرنسا المتأرجحة بين اليمين وأقصاه، والحائرة من تكون بعد الآن.

 المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 5 + 8